.. غَزْوَةُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ ..
وَكَانَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ .
وَسَبَبُهَا : أَنّ بَكْرًا عَدَتْ عَلَى خُزَاعَةَ فِي مَائِهِمْ "
الْوَتِيرِ " فَبَيّتُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ . وَكَانَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ "
أَنّ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ ..
قُرَيْشٍ فَعَلَ فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
ثُمّ إنّ بَنِي بَكْرٍ وَثَبُوا عَلَى خُزَاعَةَ لَيْلًا بِمَاءِ يُقَالُ لَهُ الْوَتِيرُ ، قَرِيبًا مِنْ مَكّةَ . وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ <131>
بِالسّلَاحِ . وَقَاتَلَ مَعَهُمْ بَعْضُهُمْ مُسْتَخْفِيًا لَيْلًا ، حَتّى لَجَأَتْ خُزَاعَةُ إلَى الْحَرَمِ .
فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ لِنَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ - وَكَانَ يَوْمَئِذٍ قَائِدَهُمْ - يَا نَوْفَلُ إنّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ إلَهَك
إلَهَك . فَقَالَ كَلِمَةً عَظِيمَةً لَا إلَهَ لَهُ الْيَوْمَ .
يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ . فَلَعَمْرِي إنّكُمْ لَتَسْرِقُونَ فِي الْحَرَمِ . أَفَلَا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ ؟
فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ ، حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ .
فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا
حِلْفُ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمُوا وُلْدًا وَكُنّا وَالِدًا
ثُمّتْ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدًا
فَانْصُرْ هَدَاك اللّهُ نَصْرًا أَيّدًا
وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا
أَبْيَضُ مِثْلُ الْبَدْرِ يَسْمُو صَعِدَا
إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبَدَا
إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُؤَكّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رَصَدًا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُو أَحَدًا
وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدًا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا
وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدًا
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ "
نُصِرْت يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ " .
ثُمّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ،
فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلنّاسِ "
كَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ . بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ . وَقَدْ رَهّبُوا لِلّذِي صَنَعُوا " .
ثُمّ قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ . فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ . فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللّهِ..
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ .
فَقَالَ يَا بُنَيّةُ مَا أَدْرِي : أَرَغِبْت بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ ، أَمْ رَغِبْت بِهِ عَنّي ؟
قَالَتْ بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَأَنْتَ مُشْرِكٌ نَجِسٌ .
فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ أَصَابَك بَعْدِي شَرّ . ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَكَلّمَهُ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا .
ثُمّ ذَهَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَلّمَهُ فِي أَنْ يُكَلّمَ النّبِيّ <132> صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَقَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلِ . ثُمّ أَتَى عُمَرُ فَقَالَ أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ ؟ وَاَللّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إلّا الذّرّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ .
ثُمّ دَخَلَ عَلَى عَلِيّ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ - وَالْحَسَنُ غُلَامٌ يَدِبّ بَيْنَ يَدَيْهَا - فَقَالَ يَا عَلِيّ ، إنّك أَمَسّ الْقَوْمِ بِي رَحِمًا
وَإِنّي جِئْت فِي حَاجَةٍ فَلَا أَرْجِعَن خَائِبًا . اشْفَعْ لِي إلَى مُحَمّدٍ .
فَقَالَ قَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلّمَهُ فِيهِ - فَقَالَ لِفَاطِمَةَ هَلْ لَك
أَنْ تَأْمُرِي ابْنَك هَذَا ، فَيُجِيرُ بَيْنَ النّاسِ . فَيَكُونُ سَيّدَ الْعَرَبِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ ؟ فَقَالَتْ مَا يَبْلُغُ ابْنِي ذَلِكَ .
وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَقَالَ يَا أَبَا الْحَسَنِ إنّي رَأَيْت الْأُمُورَ قَدْ اشْتَدّتْ عَلَيّ فَانْصَحْنِي .
قَالَ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُغْنِي عَنْك . وَلَكِنّك سَيّدُ بَنِي كِنَانَةَ فَقُمْ وَأَجِرْ بَيْنَ النّاسِ ثُمّ الْحَقْ بِأَرْضِك .
فَقَالَ أَوَتَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنّي شَيْئًا ؟ قَالَ لَا ، وَاَللّهِ مَا أَظُنّهُ وَلَكِنْ مَا أَجِدُ لَك غَيْرَ ذَلِكَ .
فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ . ثُمّ رَكِبَ بَعِيرُهُ .
وَانْصَرَفَ عَائِدًا إلَى مَكّةَ . فَلَمّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا : مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ جِئْت مُحَمّدًا فَكَلّمْته ، فَوَاَللّهِ مَا رَدّ عَلَيّ
شَيْئًا ، ثُمّ جِئْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ . فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْرًا . ثُمّ جِئْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَوَجَدْته أَدْنَى الْعَدُوّ - يَعْنِي :
أَعْدَى الْعَدُوّ ثُمّ جِئْت عَلِيّا فَوَجَدْته أَلْيَنَ الْقَوْمِ وَقَدْ أَشَارَ عَلَيّ بِكَذَا وَكَذَا . فَفَعَلْت .
قَالُوا : فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمّدًا ؟ قَالَ لَا . قَالُوا : وَيْلَك ، وَاَللّهِ إنّ زَادَ الرّجُلِ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِك .
وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ بِالْجَهَازِ وَقَالَ اللّهُمّ خُذْ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ ، حَتّى نَبْغَتَهَا
فِي بِلَادِهَا..
فَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى قُرَيْشٍ كِتَابًا ، يُخْبِرُهُمْ فِيهِ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَدَفَعَهُ إلَى سَارَةَ - مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ - فَجَعَلْته فِي رَأْسِهَا . ثُمّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا .
وَأَتَى الْخَبَرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ السّمَاءِ . فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلِيّا وَالزّبَيْرَ إلَى الْمَرْأَةِ فَأَدْرَكَاهَا بِرَوْضَةِ خَاخٍ . فَأَنْكَرَتْ . فَفَتّشَا رَحْلَهَا . فَلَمْ يَجِدَا فِيهِ شَيْئًا فَهَدّدَاهَا .
فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا . فَأَتَيَا بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَدَعَا <133> حَاطِبًا . فَقَالَ "
مَا هَذَا يَا حَاطِبُ ؟ " فَقَالَ لَا تَعْجَلْ عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ .
وَاَللّهِ إنّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا ارْتَدَدْت وَلَا بَدّلْت ، وَلَكِنّي كُنْت امْرِئِ مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ ، لَسْت مِنْ أَنْفُسِهِمْ .
وَلِي فِيهِمْ أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ وَوَلَدٌ . وَلَيْسَ لِي فِيهِمْ قَرَابَةٌ يَحْمُونَهُمْ . وَكَانَ مَنْ مَعَك لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَهُمْ .
فَأَحْبَبْت أَنْ أَتّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا .
قَدْ عَلِمْتُ أَنّ اللّهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمّ لَهُ أَمْرَهُ . فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ .
فَإِنّهُ قَدْ خَانَ اللّهَ وَرَسُولَهُ .
وَقَدْ نَافَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ ؟ لَعَلّ اللّهَ اطّلَعَ عَلَى
أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ . فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ([32]) .
فَذَرَفَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَمَى اللّهُ الْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ ، لَكِنّهُمْ عَلَى وَجَلٍ . فَكَانَ
أَبُو سُفْيَانَ يَتَجَسّسُ هُوَ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ .
وَكَانَ الْعَبّاسُ قَدْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا . فَلَقِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجُحْفَةِ .
فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ الظّهْرَانِ نَزَلَ عِشَاءً فَأَمَرَ الْجَيْشَ فَأَوْقَدُوا النّيرَانَ . فَأَوْقَدَ أَكْثَرُ مِنْ
عَشَرَةِ آلَافِ نَارٍ . فَرَكِبَ الْعَبّاسُ بَغْلَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَخَرَجَ يَلْتَمِسُ لَعَلّهُ يَجِدُ بَعْضَ الْحَطّابَةِ أَوْ أَحَدًا يُخْبِرُ قُرَيْشًا . لِيَخْرُجُوا يَسْتَأْمِنُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَنْوَةً .
قَالَ فَوَاَللّهِ إنّي لَأَسِيرُ عَلَيْهَا ، إذْ سَمِعْت كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ وَبُدَيْلٍ يَتَرَاجَعَانِ يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ نِيرَانًا
قَطّ وَلَا عَسْكَرًا .
قَالَ يَقُولُ بُدَيْلٌ هَذِهِ وَاَللّهِ خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ .
قَالَ يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ خُزَاعَةُ أَقَلّ وَأَذَلّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانُهَا .
فَقُلْت : أَبَا حَنْظَلَةَ ؟ فَعَرَفَ صَوْتِي ، فَقَالَ أَبَا الْفَضْلِ ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ مَا لَك ، فِدَاك أَبِي وَأُمّي ؟
قَالَ قُلْت : هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاَللّهِ قَالَ فَمَا الْحِيلَةُ ؟
قُلْت : وَاَللّهِ لَئِنْ ظَفَرَ بِك لَيَضْرِبَن عُنُقَك . فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتّى آتِيهِ بِك ، فَأَسْتَأْمِنُهُ لَك .
فَرَكِبَ خَلْفِي . وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ فَجِئْت بِهِ . فَكُلّمَا مَرَرْت <134> بِنَارِ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا : مَنْ هَذَا ؟
فَإِذَا رَأَوْنَا قَالُوا : عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ . حَتّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟
وَقَامَ إلَيّ . فَلَمّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ قَالَ عَدُوّ اللّهِ ؟ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَ اللّهُ مِنْك بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ .
ثُمّ خَرَجَ يَشْتَدّ نَحْوَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَرَكَضَتْ الْبَغْلَةُ فَسَبَقَتْهُ وَاقْتَحَمَتْ عَنْهَا .
فَدَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ .
قَدْ أَمْكَنَ اللّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ فَدَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ أَجَرْته .
فَلَمّا أَكْثَرَ عُمَرُ قُلْت : مَهْلًا يَا عُمَرُ . فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْت هَذَا . قَالَ مَهْلًا يَا عَبّاسُ .
فَوَاَللّهِ لَإِسْلَامُك كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ .
وَمَا بِي إلّا أَنّي عَرَفْت أَنّ إسْلَامَك كَانَ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اذْهَبْ بِهِ يَا عَبّاسُ إلَى رَحْلِك . فَإِذَا أَصْبَحْت فَأْتِنِي بِهِ . فَفَعَلْت .
ثُمّ غَدَوْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَقَالَ وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تَعْلَمَ أَنّ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ؟
قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَك وَأَوْصَلَك وَاَللّهِ لَقَدْ ظَنَنْت أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنّي
شَيْئًا بَعْدُ . قَالَ وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ ؟
قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَك وَأَوْصَلَك ، أَمّا هَذِهِ فَفِي النّفْسِ حَتّى الْآنَ مِنْهَا شَيْءٌ .
فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ وَيْحَك . وَأَسْلِمْ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَك . قَالَ فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ فَأَسْلَمَ .
فَقَالَ الْعَبّاسُ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا ، قَالَ نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ،
وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ .
فَلَمّا ذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا عَبّاسُ احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ
حَتّى تَمُرّ بِهِ جُنُودُ اللّهِ فَيَرَاهَا فَخَرَجْت حَتّى حَبَسْته .
وَمَرّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا . حَتّى مَرّ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ - لِكَثْرَةِ <135>
الْحَدِيدِ وَظُهُورِهِ فِيهَا - فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ . فَقَالَ سُبْحَانَ اللّهِ يَا عَبّاسُ .
مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قُلْت : هَذَا رَسُولٌ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - قَالَ مَا لِأَحَدِ بِهَؤُلَاءِ طَاقَةٌ .
وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ . فَلَمّا مَرّ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ . الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ .
الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا فَذَكَرَهُ أَبُو سُفْيَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَقَالَ كَذَبَ سَعْدٌ . وَلَكِنّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمٌ تُعَظّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ الْيَوْمَ أَعَزّ اللّهُ قُرَيْشًا ثُمّ نَزَعَ اللّوَاءَ مِنْ سَعْدٍ .
وَدَفَعَهُ إلَى قَيْسٍ ابْنِهِ . وَمَضَى أَبُو سُفْيَانَ . فَلَمّا جَاءَ قُرَيْشًا صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ . هَذَا مُحَمّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا
لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ . قَالُوا : قَاتَلَك اللّهُ وَمَا تُغْنِي عَنّا دَارُك " ؟
قَالَ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ . وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَتَفَرّقَ النّاسُ إلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ .
وَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَأَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَدَخَلَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا
وَقَالَ إنْ عَرَضَ لَكُمْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا ، حَتّى تُوَافُونِي عَلَى الصّفَا .
فَمَا عَرَضَ لَهُمْ أَحَدٌ إلّا أَنَامُوهُ .
وَتَجَمّعَ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ، وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو ، بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا .
وَكَانَ حَمَاسُ بْنُ قَيْسٍ يُعِدّ سِلَاحًا قَبْلَ مَجِيءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَاَللّهِ مَا يَقُومُ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ . فَقَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أَخْدُمَك بَعْضَهُمْ ثُمّ قَالَ
إنْ يَقْبَلُوا الْيَوْمَ فَمَالِي عِلّةٌ
هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَإِلّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ الْقِتْلَة
ثُمّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ . فَلَمّا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ : نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ فَأُصِيبَ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمّ انْهَزَمُوا فَدَخَلَ حَمَاسٌ عَلَى امْرَأَتِهِ . فَقَالَ ؟
أَغْلِقِي عَلَيّ بَابِي . فَقَالَتْ أَيْنَ مَا كُنْت تَقُولُ ؟ فَقَالَ <136>
إنّك لَوْ شَهِدْت يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ
إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدُ قَائِمٌ كَالْمُؤْتِمَهْ
وَاسْتَقْبَلْنَا بِالسّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطُنُ كُلّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيت خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ
لَمْ تَنْطِقِي بِاللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَدَخَلَ مَكّةَ .
فَبَعَثَ الزّبَيْرَ عَلَى إحْدَى الْمُجَنّبَتَيْنِ . وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْأُخْرَى .
وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ عَلَى الْحُسّرِ . فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي كَتِيبَتِهِ وَقَدْ وَبِشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا ، وَقَالُوا : نُقَدّمُ هَؤُلَاءِ .
فَإِذَا كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنّا مَعَهُمْ وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَاهُ الّذِي سَأَلْنَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ " فَقُلْت : لَبّيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ .
وَلَا يَأْتِينِي إلّا أَنْصَارِيّ فَهَتَفْت بِهِمْ فَجَاءُوا ، فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَقَالَ أَتَرَوْنَ إلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ ؟ -
ثُمّ قَالَ بِيَدَيْهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى - اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا ، حَتّى تُوَافُونِي عَلَى الصّفَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ :
فَانْطَلَقْنَا . فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنّا أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ إلّا قُتِلَ ([33]) .
وَرَكَزَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحَجُونِ عِنْدَ مَسْجِدِ الْفَتْحِ . ثُمّ نَهَضَ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ
بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ وَحَوْلَهُ حَتّى دَخَلَ الْمَسْجِدُ فَأَقْبَلَ إلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ . ثُمّ طَافَ بِالْبَيْتِ . وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ
وَحَوْلَ الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتّونَ صَنَمًا .
فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِالْقَوْسِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ وَالْأَصْنَامُ تَتَسَاقَطُ عَلَى وُجُوهِهَا .
وَكَانَ طَوَافُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا يَوْمَئِذٍ فَاقْتَصَرَ عَلَى الطّوَافِ .
فَلَمّا أَكْمَلَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ . فَأَمَرَ بِهَا فَفُتِحَتْ فَدَخَلَهَا . فَرَأَى فِيهَا الصّوَرَ وَرَأَى
صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ فَقَالَ قَاتَلَهُمْ اللّهُ وَاَللّهِ إنْ اسْتَقْسَمَا بِهَا قَط ([34])
وَأَمَرَ بِالصّوَرِ فَمُحِيَتْ . ثُمّ أُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ هُوَ وَأُسَامَةُ وَبِلَالٌ فَاسْتَقْبَلَ الْجِدَارَ الّذِي يُقَابِلُ الْبَابَ .
حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَقَفَ وَصَلّى هُنَاكَ . ثُمّ دَارَ فِي الْبَيْتِ وَكَبّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَوَحّدَ اللّهَ .
ثُمّ فَتَحَ الْبَابَ وَقُرَيْشٌ قَدْ مَلَأَتْ الْمَسْجِدَ صُفُوفًا ، يَنْظُرُونَ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِمْ ؟ فَأَخَذَ بِعِضَاتَيْ الْبَابِ وَهُمْ تَحْتَهُ .
فَقَالَ لا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثَرَةٍ
أَوْ مَالٍ أَوْ دَمٍ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ <137>
الْحَاجّ أَلَا وَقَتْلَ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ - السّوْطُ وَالْعَصَا - فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةٌ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا
أَوْلَادُهَا ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ . النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ
تُرَابٍ " ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ( 49 : 13 ) يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ثُمّ قَالَ " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ بِكُمْ ..
قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ .
قَالَ فَإِنّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ ([35])
ثُمّ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ - وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ - فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ
السّقَايَةِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْك . فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ؟ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ هَاكَ
مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمَ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ.
وَأَمَرَ بَلَالًا أَنْ يَصْعَدَ عَلَى الْكَعْبَةِ فَيُؤَذّنَ - وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعَتّابُ بْنُ أُسَيْدٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ،
وَأَشْرَافُ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ - فَقَالَ عَتّابٌ لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أُسَيْدًا أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَقَالَ
الْحَارِثُ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّهُ مُحِقّ لَاتّبَعْته . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا أَقُولُ شَيْئًا ، لَوْ تَكَلّمْت لَأَخْبَرَتْ عَنّي
هَذِهِ الْحَصْبَاءُ . فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ " قَدْ عَلِمْت الّذِي قُلْتُمْ "
ثُمّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ . فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتّابٌ نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ . وَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا .
فَنَقُولُ أَخْبَرَك .
ثُمّ دَخَلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَارَ أُمّ هَانِئٍ فَاغْتَسَلَ . وَصَلّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ صَلَاةَ الْفَتْحِ وَكَانَ أُمَرَاءُ الْإِسْلَامِ
إذَا فَتَحُوا بَلَدًا صَلّوْا هَذِهِ الصّلَاةَ .
وَلَمّا اسْتَقَرّ الْفَتْحُ أَمّنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ كُلّهُمْ إلّا تِسْعَةَ نَفَرٍ فَإِنّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ
وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَعَبْدُ الْعُزّى بْنُ خَطَلٍ وَالْحَارِثُ
بْنُ نُفَيْلٍ وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ ، وَهَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَقَيْنَتَانِ لِابْنِ خَطَلٍ وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ .
فَأَمّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَاءَ فَارّا إلَى عُثْمَانَ . فَاسْتَأْمَنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَبِلَ مِنْهُ بَعْدَ
أَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ رَجَاءَ أَنْ يَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَيَقْتُلَهُ .<138> وَأَمّا عِكْرِمَةُ .
فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ أَنْ هَرَبَ وَعَادَتْ بِهِ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ .
وَأَمّا ابْنُ خَطَلٍ ، وَمَقِيسٌ وَالْحَارِثُ وَإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ فَقُتِلُوا .
وَأَمّا هَبّارٌ فَفَرّ ثُمّ جَاءَ فَأَسْلَمَ . وَحَسُنَ إسْلَامُهُ . وَاسْتُؤْمِنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَارَةَ وَلِإِحْدَى
الْقَيْنَتَيْنِ . فَأَسْلَمَتَا .
فَلَمّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ خَطِيبًا . فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ .
ثُمّ قَال أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ .
فَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ، أَوْ يُعَضّدَ بِهَا شَجَرَةً .
فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُولُوا لَهُ إنّ اللّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ .
وَلَمْ يَأْذَنْ لَك . وَإِنّمَا أُحِلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ([36])
وَهَمّ فَضَالَةُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوّحِ اللّيْثِيّ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَطُوفُ .
فَلَمّا دَنَا مِنْهُ قَالَ " أَفَضَالَةُ ؟ "
قَالَ نَعَمْ فَضَالَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ مَاذَا تُحَدّثُ بِهِ نَفْسَك ؟ قَالَ لَا شَيْءَ .
كُنْت أَذْكُرُ اللّهَ فَضَحِكَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . ثُمّ قَالَ اسْتَغْفِرْ اللّهَ ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ وَكَانَ
فَضَالَةُ يَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتّى مَا مِنْ خَلْقِ اللّهِ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْهُ قَالَ فَضَالَةُ فَرَجَعْت إلَى
أَهْلِي . فَمَرَرْت بِامْرَأَةِ كُنْت أَتَحَدّثُ إلَيْهَا ، فَقَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ .
فَقَالَ لَا . وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ .. قَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ . فَقُلْت : لَا .. يَأْبَى الْإِلَهُ عَلَيْك وَالْإِسْلَامُ!
لَوْ قَدْ رَأَيْت مُحَمّدًا وَقَبِيلَهُ .. بِالْفَتْحِ يَوْمَ تُكْسَرُ الْأَصْنَامُ .. لَرَأَيْت دِينَ اللّهِ أَضْحَى بَيّنًا ..
وَالشّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ..
وَفَرّ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ . فَاسْتَأْمَنَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ رَسُولَ اللّهِ لِصَفْوَانَ فَلَحِقَهُ .
وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ فَرَدّهُ . وَاسْتَأْمَنَتْ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ لِزَوْجِهَا عِكْرِمَةَ ، فَلَحِقَتْ بِهِ
بِالْيَمَنِ فَرَدّتْهُ .
ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أُسَيْدٍ الْخُزَاعِيّ فَجَدّدَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ .
<139> وَبَثّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَرَايَاهُ إلَى الْأَوْثَانِ الّتِي حَوْلَ مَكّةَ . فَكُسِرَتْ كُلّهَا ، مِنْهَا اللّاتِ ، وَالْعُزّى ،
وَمَنَاةَ . وَنَادَى مُنَادِيهِ بِمَكّةَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدَعُ فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ
هَدْمُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَنَمَ سُوَاعٍ..
وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى سُوَاعٍ - وَهُوَ لِهُذَيْلٍ - قَالَ فَأَتَيْته وَعِنْدَهُ السّادِنُ فَقَالَ مَا تُرِيدُ ؟
قُلْت : أَهْدِمَهُ قَالَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قُلْت : لِمَ ؟ قَالَ تُمْنَعُ . قُلْت : حَتّى الْآنَ أَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ ؟ وَيْحَك .
وَهَلْ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ ؟ فَدَنَوْت مِنْهُ فَكَسَرْته . وَأَمَرْت أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خِزَانَتِهِ . فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ شَيْئًا .
فَقُلْت لِلسّادِنِ كَيْفَ رَأَيْت ؟ قَالَ أَسْلَمْت لِلّهِ .
.. بَعْثُ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ لِهَدْمِ مَنَاةَ..
ثُمّ بَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ الْأَشْهَلَيّ الْأَنْصَارِيّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى مَنَاةَ .
وَكَانَتْ عِنْدَ قُدَيْدٍ بِالْمُشَلّلِ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَغَسّانَ وَغَيْرِهِمْ .
فَخَرَجَ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا ، حَتّى انْتَهَى إلَيْهَا . وَعِنْدَهَا سَادِنُهَا ، فَقَالَ مَا تُرِيدُ ؟ قَالَ هَدْمَهَا . قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ .
فَأَقْبَلَ سَعْدٌ يَمْشِي إلَيْهَا ، وَتَخْرُجُ إلَيْهِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ ثَائِرَةُ الرّأْسِ تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَتَضْرِبُ صَدْرَهَا .
فَقَالَ لَهَا السّادِنُ مَنَاةُ دُونَك بَعْضُ عُصَاتِك .
فَضَرَبَهَا سَعْدٌ فَقَتَلَهَا ، وَأَقْبَلَ إلَى الصّنَمِ فَهَدَمَهُ . وَلَمْ يَجِدُوا فِي خِزَانَتِهَا شَيْئًا .
.. غَزْوَةُ حُنَيْنٍ ..
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : لَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِالْفَتْحِ جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّصْرِيّ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٍ كُلّهَا .
فَلَمّا أَجَمَعَ مَالِكٌ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَاقَ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ .
فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسَ اجْتَمَعُوا إلَيْهِ . وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةَ الْجُشَمِيّ <140> وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ إلّا رَأْيُهُ
وَكَانَ شُجَاعًا مُجَرّبًا .
فَقَالَ بِأَيّ وَادٍ أَنْتُمْ ؟ قَالُو : بِأَوْطَاسَ . قَالَ نِعْمَ مَجَالُ الْجِيلِ لَا حَزْنٌ ضَرْسٌ وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ .
مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ . وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ قَالُوا : سَاقَ مَالِكٌ مَعَ النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ .
قَالَ أَيْنَ مَالِكٌ ؟ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ إنّك أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك . وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ .
فَلِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ .
قَالَ رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك : لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك : فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك . ثُمّ قَالَ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ قَالُوا : لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ .
قَالَ غَابَ الْحَدّ وَالْجَدّ ، لَوْ كَانَ يَوْمُ عِلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ يَغِيبُوا . وَلَوَدِدْت أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ .
فَمَنْ شَهِدَهَا ؟ قَالُوا عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ . قَالَ ذَانِكَ الْجِذْعَانُ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرّانِ .
يَا مَالِكٌ إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ - بَيْضَةِ هَوَازِنَ - إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا .
ارْفَعْهُمْ إلَى مُمْتَنِعِ بِلَادِهِمْ وَعَلْيَاءِ قَوْمِهِمْ . ثُمّ أَلْقِ الصّبَا عَلَى مُتُونِ الْجِيلِ .
فَإِنْ كَانَتْ لَك : لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك . وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك : أَلْقَاك ذَاكَ وَقَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك .
قَالَ وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبُرَ عَقْلُك ، وَاَللّهِ لِتُطِيعَنّي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ ، أَوْ لَأَتّكِئَن عَلَى هَذَا السّيْفِ
حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ .
قَالُوا : أَطَعْنَاك . فَقَالَ دُرَيْدٌ هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي .
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ
كَأَنّهَا شَاةُ صَدَعْ
ثُمّ قَالَ مَالِكٌ إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
<141> ثُمّ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ مِنْ الرّعْبِ وَالْهَلَعِ . فَقَالَ لَهُمْ وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ ؟
قَالُوا : رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ . وَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى .
فَوَاَللّهِ مَا رَدّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ .
وَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُدَاخِلَهُمْ
حَتّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ . فَانْطَلَقَ . فَدَاخَلَهُمْ حَتّى عَلِمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ . فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ .
فَلَمّا أَرَادَ الْمَسِيرَ ذَكَرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا وَسِلَاحًا - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ - فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا
سِلَاحَك هَذَا ، نَلْقَ فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا " فَقَالَ أَغَضَبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ " بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ ، حَتّى نُؤَدّيهَا إلَيْك فَأَعْطَاهُ
مِائَة دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا السّلَاحُ . فَخَرَجَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَمَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ ، وَعَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الّذِينَ فَتَحَ اللّهُ بِهِمْ مَكّةَ . فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا .
وَاسْتَعْمَلَ عَتّابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى مَكّةَ .
فَلَمّا اسْتَقْبَلُوا وَادِي حُنَيْنٍ ، انْحَدَرُوا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ فِي عِمَايَةِ الصّبْحِ .
قَالَ جَابِرٌ وَكَانُوا قَدْ سَبَقُونَا إلَيْهِ فَكَمَنُوا فِي شِعَابِهِ وَمَضَايِقِهِ . قَدْ تَهَيّئُوا . فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا
عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ . وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ هَلُمّوا إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
وَبَقِيَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ فَاجْتَلَدَ النّاسُ . فَوَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ النّاسُ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا
الْأَسْرَى عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَكَانُوا حِينَ رَأَوْا كَثْرَتَهُمْ قَالُوا " لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلّةٍ " فَوَقَعَ بِهِمْ مَا وَقَعَ ابْتِلَاءٌ مِنْ اللّهِ لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا وَقَعَتْ الْهَزِيمَةُ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغَنِ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ ، وَصَرَخَ حَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ أَلَا بَطَلَ السّحَرُ الْيَوْمَ .
فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ - وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا - اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك . فَوَاَللّهِ لَأَنْ يُرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ
أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يُرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ..
<142> وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحُجَبِيّ . قَالَ " لَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قُلْت : أَسِيرُ مَعَ قُرَيْشٍ
إلَى هَوَازِنَ ، لَعَلّي أُصِيبُ مِنْ مُحَمّدٍ غُرّةً . فَأَكُونُ أَنَا الّذِي قُمْت بِثَأْرِ قُرَيْشٍ وَأَقُولُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْعَرَبِ
وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إلّا تَبِعَهُ مَا اتّبَعْته أَبَدًا .
فَلَمّا اخْتَلَطَ النّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ وَأَصْلَتَ السّيْفَ فَدَنَوْت أُرِيدُ مَا أُرِيدُ
وَرَفَعْت سَيْفِي حَتّى كِدْت أُسَوّرُهُ . فَرَفَعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ كَادَ أَنْ يُمَحّشْنِي .
فَوَضَعْت يَدِي عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ . فَالْتَفَتَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَنَادَانِي يَا شَيْبُ ، اُدْنُ " فَدَنَوْت ، فَمَسَحَ صَدْرِي .
قَالَ " اللّهُمّ أَعِذْهُ مِنْ الشّيْطَانِ فَوَاَللّهِ لَهُوَ كَانَ سَاعَتَئِذٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَنَفْسِي .
ثُمّ قَالَ اُدْنُ فَقَاتِلْ فَتَقَدّمْت أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي .
اللّهُ يَعْلَمُ أَنّي أُحِبّ أَنْ أَقِيَهُ بِنَفْسِي . لَوْ لَقِيت تِلْكَ السّاعَةَ أَبِي لَأَوْقَعْت بِهِ السّيْفَ . فَجَعَلْت أَلْزَمَهُ فِيمَنْ
لَزِمَهُ حَتّى تَرَاجَعَ النّاسُ وَكَرّوا كَرّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ . وَقُرّبَتْ بَغْلَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَاسْتَوَى عَلَيْهَا . وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَثَرِهِمْ حَتّى تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ .
وَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مُعَسْكَرِهِ فَدَخَلَ خِبَاءَهُ .
فَدَخَلْت عَلَيْهِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَيْرِي ، حُبّا لِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ وَسُرُورًا بِهِ فَقَالَ يَا شَيْبُ ، الّذِي أَرَادَ اللّهُ لَك ، مِنْ الّذِي
أَرَدْت لِنَفْسِك " .
قَالَ الْعَبّاسُ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكُنْت امْرِئِ جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ ..
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رَأَى مِنْ النّاسِ إلَيّ أَيّهَا النّاسُ أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ ،
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ . فَقَالَ " أَيْ عَبّاسٌ اهْتِفْ بِأَصْحَابِ السّمُرَةِ "
فَنَادَيْت : يَا أَصْحَابَ السّمُرَةِ يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ . فَكَانَ الرّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَرُدّ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ .
فَيَأْخُذُ سِلَاحَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ وَيَؤُمّ الصّوْتَ فَأَتَوْا مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ لَبّيْكَ لَبّيْكَ .
حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا . فَكَانَتْ
الدّعْوَةُ أَوّلًا " يَا لَلْأَنْصَارِ يَا لَلْأَنْصَارِ " ثُمّ خَلَصَتْ الدّعْوَةُ " يَا لَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج ِ " وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ثُمّ أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَصَيَاتٍ . فَرَمَى بِهَا وُجُوهَ الْقَوْمِ ثُمّ قَالَ
انْهَزِمُوا ، وَرَبّ مُحَمّدٍ . فَمَا هُوَ إلّا أَنْ رَمَاهُمْ فَمَا زِلْت أَرَى حَدّهُمْ كَلِيلًا ، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا <143>
وَلَمّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَتَوْا الطّائِفَ ، وَمِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ . وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسَ .
وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَثَرِ مَنْ تَوَجّهَ نَحْوَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ
فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ فَهَزَمَهُمْ اللّهُ تَعَالَى .
وَقُتِلَ أَبُو عَامِرٍ . فَأَخَذَ الرّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ . فَلَمّا بَلَغَ الْخَبَرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ا للّهُمّ اغْفِرْ لِأَبِي عَامِرٍ . وَاجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِك.
وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّبْيِ وَالْغَنَائِمِ أَنْ يُجْمَعَ . وَكَانَ السّبْيُ سِتّةَ آلَافِ رَأْسٍ وَالْإِبِلُ
أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، وَالْغَنَمُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ وَأَرْبَعَةُ آلَافِ أُوقِيّةٍ فِضّةً .
فَاسْتَأْنَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقْدَمُوا مُوَالِينَ مُسْلِمِينَ بِضْعَةَ عَشَرَ لَيْلَةً .
ثُمّ بَدَأَ بِالْأَمْوَالِ فَقَسَمَهَا : وَأَعْطَى الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ أَوّلَ النّاسِ . فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ .
وَأَرْبَعِينَ أُوقِيّةً . وَأَعْطَى ابْنَهُ يَزِيدَ مِثْلَ ذَلِكَ . وَأَعْطَى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ . ثُمّ سَأَلَهُ مِائَةً أُخْرَى فَأَعْطَاهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَصْحَابَ الْمِائَةِ وَأَصْحَابَ الْخَمْسِينَ .
ثُمّ أَمَرَ يَزِيدَ ثَابِتٌ بِإِحْصَاءِ الْغَنَائِمِ وَالنّاسِ ثُمّ فَضّهَا عَلَى النّاسِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودٍ لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ..
قَالَ <144> لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِل
الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ . وَجَدَتْ الْأَنْصَارُ فِي أَنْفُسِهِمْ . حَتّى كَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ حَتّى..
قَالَ قَائِلُهُمْ لَقِيَ وَاَللّهِ رَسُولُ اللّهِ قَوْمَهُ . فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ . فَقَالَ "
فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلّا مِنْ قَوْمِي ، قَالَ " فَاجْمَعْ لِي قَوْمَك فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ "
فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ . فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا . وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ . فَلَمّا اجْتَمَعُوا ، أَتَاهُ سَعْدٌ .
فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ . ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ :
مَا مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ ؟ وَجَدّةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا . فَهَدَاكُمْ اللّهُ بِي ؟
وَعَالّةٌ فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ بِي ؟ وَأَعْدَاءٌ . فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي ؟ " . قَالُوا : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ .
ثُمّ قَالَ أَلَا تُجِيبُونِي ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ . قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ وَلِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ .
قَالَ " أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك ،
وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك . أَوَجَدْتُمْ عَلَيّ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ لُعَاعَةً مِنْ الدّنْيَا ، تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسَلّمُوا ،
وَوَكّلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ ؟ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ أَنْتُمْ
بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت
امْرِئِ مِنْ الْأَنْصَارِ .
وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَوَادِيًا ، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا وَوَادِيًا ، لَسَلَكَتْ شِعْبَ الْأَنْصَارِ وَوَادِيَهَا ، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ
وَالنّاسُ دِثَارٌ اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ " .
قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا وَحَظّا . ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا
وَقَدِمَتْ الشّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ - أُخْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ .
أَنَا أُخْتُك ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ . وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ !
وَقَالَ " إنْ أَحْبَبْت فَعِنْدِي مَكْرُمَةٌ وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ أُمَتّعَك وَتَرْجِعِي إلَى قَوْمِك " فَقَالَتْ بَلْ تُمَتّعُنِي ، وَتَرُدّنِي
إلَى قَوْمِي . فَفَعَلَ وَأَسْلَمَتْ . فَأَعْطَاهَا ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ وَجَارِيَةً وَنَعْمَاءَ وَشَاءً
.. الْمَنّ عَلَى سَبْيِ هَوَازِنَ..
وَقَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَسَأَلُوهُ أَنْ يُمَنّ عَلَيْهِمْ
السّبْيَ وَالْأَمْوَالَ فَقَالَ إنّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ ، وَإِنّ أَحَبّ الْحَدِيثِ إلَيّ أَصْدَقُهُ . فَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ
أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ فَقَالُوا : مَا كُنّا نَعْدِلُ بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا . فَقَالَ " إذَا صَلّيْت الْغَدَاةَ فَقُومُوا ، فَقُولُوا إنّا نَسْتَشْفِعُ
بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ أَنْ يَرُدّ إلَيْنَا سَبْيَنَا " .
فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغَدَاةَ قَامُوا ، فَقَالُوا ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَمَا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِب ِ : فَهُوَ لَكُمْ وَسَأَسْأَلُ لَكُمْ النّاسَ . فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ :
مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا .
وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا . وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا .
فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ الْعَبّاسُ وَهَنْتُمُونِي .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ جَاءُوا مُسْلِمِينَ .
وَقَدْ اسْتَأْنَيْت بِسَبَبِهِمْ وَقَدْ خَيّرْتهمْ فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَبْنَاءِ وَالنّسَاءِ شَيْئًا : فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَطَابَتْ نَفْسُهُ
بِأَنْ يَرُدّهُ فَسَبِيلُ ذَلِكَ . وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِحَقّهِ فَلْيَرُدّهُ عَلَيْهِمْ . وَلَهُ بِكُلّ فَرِيضَةٍ سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ
مَا يَفِيءُ اللّهُ عَلَيْنَا " فَقَالَ النّاسُ قَدْ طَيّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَقَالَ " إنّا لَا نَعْرِفُ مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ مِمّنْ لَمْ يَرْضَ فَارْجِعُوا حَتّى يَرْفَعُ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ .
فَرُدّوا عَلَيْهِمْ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَكَسَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّبْيَ قِبْطِيّةً قِبْطِيّةً <145>
..فَصْلٌ [ الحكم المستفاد من غزوة حنين ]..
لَمّا تَمّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فَتْحُ مَكّةَ : اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللّهِ أَنْ أُمْسِكَ قُلُوبَ
هَوَازِنَ عَنْ الْإِسْلَامِ لِتَكُونَ غَنَائِمُهُمْ شُكْرَانًا لِأَهْلِ الْفَتْحِ وَلِيُظْهِرَ حِزْبَهُ عَلَى الشّوْكَةِ الّتِي لَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ
مِثْلَهَا . فَلَا يُقَاوِمُهُمْ أَحَدٌ بَعْدُ مِنْ الْعَرَبِ .
وَأَذَاقَ الْمُسْلِمِينَ أَوّلًا مَرَارَةَ الْكِسْرَةِ مَعَ قُوّةِ شَوْكَتِهِمْ لِيُطَمْئِنَ رُءُوسًا رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ وَلَمْ تَدْخُلْ حَرَمَهُ كَمَا دَخَلَهُ
رَسُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاضِعًا رَأْسَهُ مُنْحَنِيًا عَلَى فَرَسِهِ حَتّى إنّ ذَقْنَهُ لَيَكَادُ يَمَسّ قُرْبُوسَ سُرُجِهِ..
تَوَاضُعًا لِرَبّهِ . وَلِيُبَيّنَ سُبْحَانَهُ - لِمَنْ قَالَ " لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلّةٍ " - إنّ النّصْرَ إنّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ سُبْحَانَهُ وَأَنّ
مَنْ يُخَذّلْهُ فَلَا نَاصِرَ لَهُ غَيْرُهُ . وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ الّذِي تَوَلّى نَصْرَ دِينِهِ لَا كَثْرَتُكُمْ . فَلَمّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ أَرْسَلَ إلَيْهَا
خَلْعَ الْجَبْرِ مَعَ بَرِيدِ النّصْرِ ( 9 : 26 )
ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا <146> وَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ خِلَعَ
النّصْرِ إنّمَا تُفِيضُ عَلَى أَهْلِ الِانْكِسَارِ ( 28 : 6 ) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.