القول في تأويل قوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
مسألة: الجزء الحادي والعشرون -- التحليل الموضوعي
***************************
القول في تأويل قوله تعالى :
( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
إنه هو الغفور الرحيم ( 53 ) ) .
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية ،
فقال بعضهم :
عني بها قوم من أهل الشرك ، قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله :
كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا ، وقتلنا النفس التي حرم الله ،
والله يعد فاعل ذلك النار ، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان ،
فنزلت هذه الآية . ذكر من قال ذلك :
-------
محمد بن سعد قال ثني أبي ، قال : ثني عمي ،
قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس :
( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
وذلك أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أنه من عبد الأوثان ،
ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ،
فكيف نهاجر ونسلم ، وقد عبدنا الآلهة ،
وقتلنا النفس التي حرم الله ونحن أهل الشرك ؟
فأنزل الله :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) يقول :
لا تيأسوا من رحمتي ، إن الله يغفر الذنوب جميعا . وقال :
( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) وإنما يعاتب الله أولي الألباب ،
وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان ، فإياهم عاتب ،
وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه أن لا يقنط من رحمة الله ،
وأن ينيب ولا يبطئ بالتوبة من ذلك الإسراف والذنب الذي عمل ،
وقد ذكر الله في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا الله المغفرة ،
فقالوا :
( ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا )
فينبغي أن يعلم [ ص: 307 ]
أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف ، فأمرهم بالتوبة من إسرافهم . حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال :
ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال :
ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله :
( الذين أسرفوا على أنفسهم ) قال : قتل النفس في الجاهلية . حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال :
ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال :
نزلت هذه الآيات الثلاث بالمدينة في وحشي وأصحابه
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم )
إلى قوله :
( من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ) . حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال :
أخبرني أبو صخر قال :
قال زيد بن أسلم في قوله :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
قال :
إنما هي للمشركين . حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) حتى بلغ
( الذنوب جميعا )
قال :
ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية ،
فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يتاب عليهم ،
فدعاهم الله بهذه الآية :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) . حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال :
ثنا أسباط ، عن السدي في قوله :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) قال :
هؤلاء المشركون من أهل مكة قالوا :
كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى ، أو قتل ،
أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار ؟
فكل هذه الأعمال قد عملناها ،
فأنزلت فيهم هذه الآية :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) . حدثني يونس قال :
أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : [ ص: 308 ]
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) الآية . قال :
كان قوم مسخوطين في أهل الجاهلية ، فلما بعث الله نبيه قالوا :
لو أتينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمنا به واتبعناه ،
فقال بعضهم لبعض : كيف يقبلكم الله ورسوله فى دينه ؟
فقالوا :ألا نبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رجلا ؟ فلما بعثوا ، نزل القرآن :
( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
فقرأ حتى بلغ :
( فأكون من المحسنين ) . حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبي قال :
تجالس شتير بن شكل ومسروق فقال شتير :
إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدقك ،
وإما أن أحدث فتصدقني فقال مسروق :
لا بل حدث فأصدقك . فقال : سمعت ابن مسعود يقول :
إن أكبر آية فرجا في القرآن
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
فقال مسروق :
صدقت . بل عني بذلك أهل الإسلام ، وقالوا : تأويل الكلام :
إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء ،
قالوا : وهي كذلك في مصحف عبد الله ،
وقالوا :
إنما نزلت هذه الآية في قوم صدهم المشركون عن الهجرة
وفتنوهم ، فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة . ذكر من قال ذلك :
--------
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال :
ثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ،
عن ابن عمر قال : قال يعني عمر : كنا نقول :
ما لمن افتتن من توبة ، وكانوا يقولون :
ما الله بقابل منا شيئا ، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته ،
فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنزل الله فيهم :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) . الآية .
قال عمر :
فكتبتها بيدي ، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص قال هشام :
فلما جاءتني جعلت أقرؤها
ولا أفهمها ، فوقع في نفسي أنها أنزلت فينا لما كنا [ ص: 309 ] نقول ،
فجلست على بعيري ، ثم لحقت بالمدينة . حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : ثني محمد بن إسحاق ،
عن نافع ، عن ابن عمر قال :
إنما أنزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ،
والوليد بن الوليد ،
ونفر من المسلمين
كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا ، فافتتنوا ، كنا نقول :
لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا ،
قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه ،
فنزلت هؤلاء الآيات ، وكان عمر بن الخطاب كاتبا ، قال :
فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة ،
والوليد بن الوليد ، إلى أولئك النفر ،
فأسلموا وهاجروا .
حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية قال :
ثنا يونس ، عن ابن سيرين قال :
قال علي رضي الله عنه :
أي آية في القرآن أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن :
( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) .
ونحوها ،
فقال علي : ما في القرآن آية أوسع من :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) . . .
إلى آخر الآية . حدثنا أبو السائب قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ،
عن أبي سعيد الأزدي ،
عن أبي الكنود قال :
دخل عبد الله المسجد ، فإذا قاص يذكر النار والأغلال ،
قال :
فجاء حتى قام على رأسه ، فقال ما يذكر ، أتقنط الناس ؟
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) . . . الآية . حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال :
أخبرني أبو صخر ، عن القرظي أنه قال في هذه الآية :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
قال : هي للناس أجمعين . حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة
قال : ثنا حجاج
قال :ثنا ابن لهيعة ، عن أبي قنبل قال :
سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول :
ثني أبو عبد الرحمن الجلائي أنه سمع ثوبان
مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
" ما أحب أن لي الدنيا وما فيها [ ص: 310 ] بهذه الآية :
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) " . . . الآية ،
فقال رجل : يا رسول الله ، ومن أشرك ؟ فسكت النبي
- صلى الله عليه وسلم - ثم قال :
" ألا ومن أشرك ، ألا ومن أشرك ، ثلاث مرات " . وقال آخرون :
نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار ،
فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء .
حدثني ابن البرقي قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة قال :
ثنا أبو معاذ الخراساني ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ،
عن ابن عمر قال :
كنا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
نرى أو نقول :
إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة ،
حتى نزلت هذه الآية
( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم )
فلما نزلت هذه الآية قلنا :
ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال :
فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا :
قد هلك ، حتى نزلت هذه الآية :
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )
فلما نزلت هذه الآية كففنا
عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا
خفنا عليه ، إن لم يصب منها شيئا رجونا له . وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال :
عنى - تعالى ذكره -
بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك ؛
لأن الله عم بقوله
( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) جميع المسرفين ،
فلم يخصص به مسرفا دون مسرف . فإن قال قائل : فيغفر الله الشرك ؟ قيل :
نعم إذا تاب منه المشرك . وإنما عنى بقوله
( إن الله يغفر الذنوب جميعا ) لمن يشاء ، كما قد ذكرنا قبل ،
أن ابن مسعود كان يقرؤه :
وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه ، فقال :
إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ،
فأخبر أنه [ ص: 311 ] لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله :
( إلا من تاب وآمن وعمل صالحا ) .
فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه ،
إن شاء تفضل عليه ، فعفا له عنه ،
وإن شاء عدل عليه فجازاه به .
وأما قوله : ( لا تقنطوا من رحمة الله ) فإنه يعني :
لا تيأسوا من رحمة الله . كذلك حدثني محمد بن سعد قال :
ثني أبي ، قال :
ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس . وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبينا معناه .
وقوله : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا ) يقول :
إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها
وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها
( إنه هو الغفور الرحيم ) بهم ،
أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها .
_____________________
فتحــــــى عطـــــــا
fathy - atta
hgr,g td jH,dg r,gi juhgn : ( rg dh ufh]d hg`dk Hsvt,h ugn Hktsil Hktsil hg`dk hgr,g jl,dg juhgn ufh]d
اخي العزيز / اختي العزيزة .. الرجاء وضع توقيع واحد فقط وبحجم مناسب !!