قديم 11-10-2012, 11:19 AM
المشاركة 108

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



نــسبـــــه

عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميّة القرشي ، أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة الذي جعل عمر
الأمر شورى بينهم ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على د أبي بكر الصديق ، توفي رسول الله..
-صلى الله عليه وسلم-وهو عنه راضٍ صلى إلى القبلتيـن وهاجر الهجرتيـن وبمقتله كانت الفتنة الأولى في
الإسلام.

أسلامــــــه
كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- غنياً شريفاً في الجاهلية ، وأسلم بعد البعثة بقليل ، فكان من السابقين
إلى الإسلام ، فهو أول من هاجر إلى الحبشة مع زوجته رقيّة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الهجرة
الأولى والثانية وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
( إنّهما لأوّل من هاجر إلى الله بعد لوطٍ ) ، ( إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوطٍ )
وهو أوّل من شيّد المسجد ، وأوّل من خطَّ المفصَّل ، وأوّل من ختم القرآن في ركعة ، وكان أخوه من المهاجرين
عبد الرحمن بن عوف ومن الأنصار أوس بن ثابت أخا حسّان .
قال عثمان : ( ان الله عز وجل بعث محمداً بالحق ، فكنتُ ممن استجاب لله ولرسوله ، وآمن بما بُعِثَ به محمدٌ ،
ثم هاجرت الهجرتين وكنت صهْرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبايعتُ رسول الله فوالله ما عصيتُه
ولا غَشَشْتُهُ حتى توفّاهُ الله عز وجل
).

الصــلأبـــــه
مّا أسلم عثمان -رضي الله عنه- أخذه عمّه الحكم بن أبي العاص بن أميّة فأوثقه رباطاً ، وقال :
( أترغبُ عن ملّة آبائك إلى دين محدث ؟ والله لا أحلّك أبداً حتى تدعَ ما أنت عليه من هذا الدين )
فقال عثمان : ( والله لا أدَعُهُ أبداً ولا أفارقُهُ ) فلمّا رأى الحكم صلابتَه في دينه تركه.

ذي النوريــــــن
لقّب عثمان -رضي الله عنه- بذي النورين لتزوجه بنتيْ النبي -صلى الله عليه وسلم- رقيّة ثم أم كلثوم ، فقد
زوّجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنته رقيّة ، فلّما ماتت زوّجه أختها أم كلثوم فلمّا ماتت تأسّف..
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مصاهرته فقال :
( والذي نفسي بيده لو كان عندي ثالثة لزوّجنُكَها يا عثمان ).

سهم بـــــــدر
أثبت له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمَ البدريين وأجرَهم ، وكان غاب عنها لتمريضه زوجته رقيّة بنت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :
( إن لك أجر رجلٍ ممن شهد بدراً وسهمه ).

الحديبـــــيه
بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن عفان يوم الحديبية إلى أهل مكة ، لكونه أعزَّ بيتٍ بمكة ،
واتفقت بيعة الرضوان في غيبته ، فضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشماله على يمينه وقال :
( هذه يدُ عثمان ) فقال الناس : ( هنيئاً لعثمان ) .

جهاده بمالـــــه
ام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بنفسه وماله في واجب النصرة ، كما اشترى بئر رومة بعشرين ألفاً
وتصدّق بها ، وجعل دلوه فيها لدِلاِءِ المسلمين ، كما ابتاع توسعة المسجد النبوي بخمسة وعشرين ألفاً
كان الصحابة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزاةٍ ، فأصاب الناس جَهْدٌ حتى بدت الكآبة في وجوه
المسلمين ، والفرح في وجوه المنافقين ، فلما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك قال :
( والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزقٍ ) .
فعلم عثمان أنّ الله ورسوله سيصدقان ، فاشترى أربعَ عشرة راحلةً بما عليها من الطعام ، فوجّه إلى النبي
-صلى الله عليه وسلم- منها بتسعٍ ، فلما رأى ذلك النبي قال : ( ما هذا ؟)
قالوا : أُهدي إليك من عثمان - فعُرِفَ الفرحُ في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والكآبة في وجوه
المنافقين ، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يديه حتى رُؤيَ بياضُ إبطيْه ، يدعو لعثمان دعاءً ما سُمِعَ
دعا لأحد قبله ولا بعده : ( اللهم اعط عثمان ، اللهم افعل بعثمان ).
قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليَّ فرأى لحماً فقال :
( من بعث بهذا ؟) قلت : عثمان - فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رافعاً يديْهِ يدعو لعثمان.

جيش العسُــــــره
جهّز عثمان بن عفان -رضي الله عنه- جيش العُسْرَة بتسعمائةٍ وخمسين بعيراً وخمسين فرساً ، واستغرق
الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء له يومها ، ورفع يديه حتى أُريَ بياض إبطيه ،فقد جاء عثمان
إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بألف دينار حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره ، فجعل
-صلى الله عليه وسلم- يقلبها ويقول : ( ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم ) مرتين.

الحيــــــــاء
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( أشد أمتي حياءً عثمان )
قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها- : استأذن أبو بكر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع
على فراش ، عليه مِرْطٌ لي ، فأذن له وهو على حاله ، فقضى الله حاجته ، ثم انصرف ثم استأذن عمر فأذن له ،
وهو على تلك الحال ، فقضى الله حاجته ، ثم انصرف ثم استأذن عثمان ، فجلس رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وأصلح عليه ثيابه وقال : ( اجمعي عليك ثيابك ) فأذن له ، فقضى الله حاجته ثم
انصرف ، فقلت : ( يا رسول الله ، لم أركَ فزِعْتُ لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان !!)
فقال : ( يا عائشة إن عثمان رجل حيي ، وإني خشيت إنْ أذنْتُ له على تلك الحال أن لا يُبَلّغ إليّ حاجته )
وفي رواية أخرى : ( ألا أستحي ممن تستحيي منه الملائكة ).

فضـــــــله
دخل رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنته وهي تغسل رأس عثمان فقال :
( يا بنيّة أحسني إلى أبي عبد الله فإنّه أشبهُ أصحابي بي خُلُقـاً ) وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
( مَنْ يُبغضُ عثمان أبغضه الله ) وقال : ( اللهم ارْضَ عن عثمان )
وقال : ( اللهم إن عثمان يترضّاك فارْضَ عنه ) اختَصّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكتابة الوحي ،
وقد نزل بسببه آيات من كتاب الله تعالى ، وأثنى عليه جميع الصحابة ، وبركاته وكراماته كثيرة ، وكان عثمان
-رضي الله عنه- شديد المتابعة للسنة ، كثير القيام بالليل.
قال عثمان -رضي الله عنه- : ( ما تغنيّتُ ولمّا تمنّيتُ ، ولا وضعتُ يدي اليمنى على فرجي منذ بايعتُ بها
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما مرّت بي جمعة إلا وإعتقُ فيها رقبة ، ولا زنيتُ في جاهلية ولا إسلام ،
ولا سرقت
).

اللهم أشهـــــــد
عن الأحنف بن قيس قال : انطلقنا حجّاجاً فمروا بالمدينة ، فدخلنا المسجد ، فإذا علي بن أبي طالب والزبير
وطلحة وسعد بن أبي وقاص - فلم يكن بأسرع من أن جاء عثمان عليه ملاءة صفراء قد منع بها رأسه فقال :
( أها هنا علي ؟) قالوا : نعم - قال : ( أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم
-) قال : ( من يبتاع مِرْبدَ بني فلان غفر الله له ؟) فابتعته بعشرين ألفاً أو بخمسة
وعشرين ألفاً ، فأتيت رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت : ( إني قد ابتعته )
فقال : ( اجعله في مسجدنا وأجره لك ) ؟ قالوا : نعم
قال : ( أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :
( من يبتاع بئر روْمة غفر الله له ) فابتعتها بكذا وكذا ، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقلت : ( إني قد ابتعتها ) فقال : ( اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك )؟ قالوا : نعم
قال : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر في وجوه القوم
يوم ( جيش العُسرة ) فقال : ( من يجهز هؤلاء غفر الله له ) فجهزتهم ما يفقدون خطاماً ولا عقالاً ؟
قالوا : نعم
قال : ( اللهم اشهد اللهم اشهد ) ثم انصرف.

الخلافـــــــه
كان عثمان -رضي الله عنه- ثالث الخلفاء الراشدين ، فقد بايعه المسلمون بعد مقتل عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه- سنة 23 هـ ، فقد عيَّن عمر ستة للخلافة فجعلوا الأمر في ثلاثة ، ثم جعل الثلاثة أمرهم
إلى عبد الرجمن بن عوف بعد أن عاهد الله لهم أن لا يألوا عن أفضلهم ، ثم أخذ العهد والميثاق أن..
يسمعوا ويطيعوا لمن عيّنه وولاه ، فجمع الناس ووعظهم وذكّرَهم ثم أخذ بيد عثمان وبايعه الناس على ذلك ،
فلما تمت البيعة أخذ عثمان بن عفان حاجباً هو مولاه وكاتباً هو مروان بن الحكم.
ومن خُطبته يوم استخلافه لبعض من أنكر استخلافه أنه قال : ( أمّا بعد ، فإنَّ الله بعث محمداً بالحق فكنت
ممن استجاب لله ورسوله ، وهاجرت الهجرتين ، وبايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ،
والله ما غششْتُهُ ولا عصيتُه حتى توفاه الله ، ثم أبا بكر مثله ، ثم عمر كذلك ، ثم استُخْلفتُ ، أفليس لي من
الحق مثلُ الذي لهم
؟!)

الخيــــــــــر
انبسطت الأموال في زمنه حتى بيعت جارية بوزنها ، وفرس بمائة ألف ، ونخلة بألف درهم ، وحجّ بالناس
عشر حجج متوالية.

الفتوح الإسلامــــــيه
وفتح الله في أيام خلافة عثمان -رضي الله عنه- الإسكندرية ثم سابور ثم إفريقية ثم قبرص ، ثم إصطخر
الآخـرة وفارس الأولى ثم خـو وفارس الآخـرة ، ثم طبرستان ودُرُبجرْد وكرمان وسجستان ، ثم الأساورة في
البحر ثم ساحل الأردن .

الفتنــــــة
ويعود سبب الفتنة التي أدت إلى الخروج عليه وقتله أنه كان كَلِفاً بأقاربه وكانوا قرابة سوء ، وكان قد ولى
على أهل مصر عبدالله بن سعد بن أبي السّرح فشكوه إليه ، فولى عليهم محمد بن أبي بكر الصديق
باختيارهم له ، وكتب لهم العهد ، وخرج معهم مددٌ من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي
السّرح ، فلمّا كانوا على ثلاثة أيام من المدينة ..
إذ همّ بغلام عثمان على راحلته ومعه كتاب مفترى ، وعليه خاتم عثمان ، إلى ابن أبي السّرح يحرّضه
ويحثّه على قتالهم إذا قدموا عليه ، فرجعوا به إلى عثمان فحلف لهم أنّه لم يأمُره ولم يعلم من أرسله ،
وصدق -رضي الله عنه- فهو أجلّ قدراً وأنبل ذكراً وأروع وأرفع من أن يجري مثلُ ذلك على لسانه أو يده ،
وقد قيل أن مروان هو الكاتب والمرسل !
ولمّا حلف لهم عثمان -رضي الله عنه- طلبوا منه أن يسلمهم مروان فأبى عليهم ، فطلبوا منه أن يخلع
نفسه فأبى ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد قال له :
( عثمان ! أنه لعلّ الله أن يُلبسَكَ قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه ).

الحصـــــــار
فاجتمع نفر من أهل مصر والكوفة والبصرة وساروا إليه ، فأغلق بابه دونهم ، فحاصروه عشرين أو أربعين يوماً ،
وكان يُشرف عليهم في أثناء المدّة ، ويذكّرهم سوابقه في الإسلام ، والأحاديث النبوية المتضمّنة للثناء
عليه والشهادة له بالجنة ، فيعترفون بها ولا ينكفّون عن قتاله !! وكان يقول :
( إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إليّ عهداً فأنا صابرٌ عليه ) ، ( إنك ستبتلى بعدي فلا تقاتلن ).
وعن أبي سهلة مولى عثمان : قلت لعثمان يوماً : ( قاتل يا أمير المؤمنين )
قال : ( لا والله لا أقاتلُ ، قد وعدني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمراً فأنا صابر عليه )
واشرف عثمان على الذين حاصروه فقال : ( يا قوم ! لا تقتلوني فإني والٍ وأخٌ مسلم ، فوالله إن أردتُ إلا
الإصلاح ما استطعت ، أصبتُ أو أخطأتُ ، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعاً أبداً ، ولا تغزوا جميعاً أبداً ولا
يقسم فيؤكم بينكم
) فلما أبَوْا قال: ( اللهم احصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تبق منهم أحداً )
فقتل الله منهم مَنْ قتل في الفتنة ، وبعث يزيد إلى أهل المدينة عشرين ألفاً فأباحوا المدينة ثلاثاً يصنعون
ما شاءوا لمداهنتهم.

استشهـــــاده
وكان مع عثمان -رضي الله عنه- في الدار نحو ستمائة رجل ، فطلبوا منه الخروج للقتال ، فكره وقال :
( إنّما المراد نفسي وسأقي المسلمين بها ) فدخلوا عليه من دار أبي حَزْم الأنصاري فقتلوه ، و المصحف
بين يديه فوقع شيء من دمـه عليه ، وكان ذلك صبيحـة عيد الأضحـى سنة 35 هـ في بيته بالمدينة.
ومن حديث مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان : أن عثمان أعتق عشرين عبداً مملوكاً ، ودعا بسراويل
فشدَّ بها عليه ، ولم يلبَسْها في جاهلية ولا إسلام وقال : ( إني رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
البارحة في المنام ، ورأيت أبا بكر وعمر وأنهم قالوا لي
: ( اصبر ، فإنك تفطر عندنا القابلة ) فدعا بمصحف
فنشره بين يديه ، فقُتِلَ وهو بين يديه.
كانت مدّة ولايته -رضي الله عنه وأرضاه- إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وأربعة عشر يوماً ، واستشهد
وله تسعون أو ثمان وثمانون سنة..
ودفِنَ -رضي الله عنه- بالبقيع ، وكان قتله أول فتنة انفتحت بين المسلمين فلم تنغلق إلى اليوم.

يوم الجمـــــــل
في يوم الجمل قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- :
اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ، ولقد طاش عقلي يوم قُتِل عثمان ، وأنكرت نفسي وجاؤوني للبيعة
فقلت : ( إني لأستَحْيي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
( ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة ) وإني لأستحي من الله وعثمان على الأرض لم يدفن بعد.
فانصرفوا ، فلما دُفِنَ رجع الناس فسألوني البيعة فقلت : ( اللهم إني مشفقٌ مما أقدم عليه )
ثم جاءت عزيمة فبايعتُ فلقد قالوا : ( يا أمير المؤمنين ) فكأنما صُدِعَ قلبي وقلت :
( اللهم خُذْ مني لعثمان حتى ترضى ).








عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:19 AM
المشاركة 109

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



نــسبـــــــــه

هو ابـن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولد قبل البعثة النبوية بعشـر سنين وأقام في بيت النبوة فكان أول
من أجاب الى الاسلام من الصبيان ، هو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وزوجته فاطمة الزهراء ابنة النبي..
-صلى الله عليه وسلم- ووالد الحسن والحسين سيدي شباب الجنة.

الرسول يضمه إليــه
ان أول ذكر من الناس آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدق بما جاءه من الله تعالى:
علي بن أبي طالب رضوان الله وسلامه عليه ، وهو يومئذ ابن عشر سنين ، فقد أصابت قريشاً أزمة شديدة ،
وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال الرسول الكريم للعباس عمه :
( يا عباس ، إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمـة ، فانطلق بنا إليه فلنخفـف
عنه من عياله ، آخذ من بنيـه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه
)
فقال العباس : ( نعم ).
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له : ( إنا نريد أن نخفف من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه )
فقال لهما أبو طالب : ( إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما ) فأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- علياً
فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه ، فلم يزل علي مع رسول الله حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبياً ،
فاتبعه علي -رضي الله عنه- وآمن به وصدقه ، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا حضرت الصلاة خرج
الى شعاب مكة ، وخرج علي معه مستخفياً من أبيه وسائر قومه ، فيصليان الصلوات معا ، فإذا أمسيا رجعا.

منـــزلته من الرسـول
مّا آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه قال لعلي : ( أنت أخي ) وكان يكتب لرسول الله..
-صلى الله عليه وسلم- ، وشهد الغزوات كلها ما عدا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسول..
-صلى الله عليه وسلم- في أهله وقال له: ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى )
وكان مثالا في الشجاعة و الفروسية ما بارز أحد الا صرعه ، وكان زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة قال فيه النبي
-صلى الله عليه وسلم- : ( من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغض عليا فقد أبغضني ،
ومن أبغضني فقد أبغض الله
)
دعاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وزوجته فاطمة وابنيه ( الحسن والحسين ) وجلَّلهم بكساء وقال :
( اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرْهُم تطهيراً ) وذلك عندما نزلت الآية الكريمة.
قال تعالى : ( إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيت )
كما قال -عليه أفضل الصلاة والسلام- : ( اشتاقت الجنّةِ إلى ثلاثة : إلى علي ، وعمّار وبلال ).

ليلة الهجـــرة
في ليلة الهجرة ، اجتمع رأي المشركين في دار الندوة على أن يقتلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم-
في فراشه ، فأتى جبريل -عليه السلام- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:
( لا تبيت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ) فلما كانت عتمة من الليل اجتمع المشركون على
بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي :
( نم على فراشي ، وتَسَجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فإنه لن يَخْلُصَ إليك شيء تكرهه منهم ).
ونام علي -رضي الله عنه- تلك الليلة بفراش رسول الله ، واستطاع الرسول -صلى الله عليه سلم- من الخروج
من الدار ومن مكة ، وفي الصباح تفاجأ المشركون بعلي في فراش الرسول الكريم وأقام علي -كرّم الله وجهه-
بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس ، حتى
إذا فرغ منها لحق برسول الله في قباء .

أبــو تـــراب
دخل ‏علي ‏‏على ‏فاطمة -رضي الله عنهما-‏ ‏، ثم خرج فاضطجع في المسجد ، فقال النبي..
‏-‏صلى الله عليه وسلم- ‏: ( ‏أين ابن عمك ) قالت : ( في المسجد ) فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره ،
وخلص التراب إلى ظهره ، فجعل يمسح التراب عن ظهره فيقول : ( اجلس يا ‏‏أبا تراب ) مرتين .

يـــــوم خيبـــر
في غزوة خيبـر قال الرسـول -صلى اللـه عليه وسلم- :
( لأُعْطينّ الرايةَ غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويُحبه الله ورسوله ، يفتح الله عليه ، أو على يديه )
فكان رضي الله عنه هو المُعْطَى وفُتِحَت على يديه . ‏

خلافتـــه
ما استشهد عثمان -رضي الله عنه- سنة ( 35 هـ ) بايعه الصحابة والمهاجرين و الأنصار وأصبح رابع الخلفاء
الراشدين ، يعمل جاهدا على توحيد كلمة المسلمين واطفاء نار الفتنة ، وعزل الولاة الذين كانوا مصدر
الشكوى.
ذهبت السيدة عائشة زوجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى مكة المكرمة لتأدية العمرة في شهر محرم
عام 36 هجري ، ولما فرغت من ذلك عادت الى المدينة ، وفي الطريق علمت باستشهاد عثمان واختيار
علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين ، فعادت ثانية الى مكة حيث لحق بها طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام
-رضي الله عنهما- وطالب الثلاثة الخليفة بتوقيع القصاص على الذين شاركوا في الخروج على الخليفة عثمان
-رضي الله عنه- ، وكان من رأي الخليفة الجديد عدم التسرع في ذلك ..
والانتظار حتى تهدأ نفوس المسلمين ، وتستقر الأوضاع في الدولة الاسلامية ، غير أنهم لم يوافقوا على ذلك
واستقر رأيهم على التوجه الى البصرة ، فساروا اليها مع أتباعهم .

معركـــة الجمـــل
خرج الخليفة من المدينة المنورة على رأس قوة من المسلمين على أمل أن يدرك السيدة عائشة
-رضي الله عنها- ، ويعيدها ومن معها الى مكة المكرمة ، ولكنه لم يلحق بهم ، فعسكر بقواته في( ذي قار )
قرب البصرة ، وجرت محاولات للتفاهم بين الطرفين ولكن الأمر لم يتم ، ونشب القتال بينهم وبذلك بدأت موقعة
الجمل في شهر جمادي الآخرة عام 36 هجري ، وسميت بذلك نسبة الى الجمل الذي كانت تركبه السيدة
عائشة -رضي الله عنها- خلال الموقعة ، التي انتهت بانتصار قوات الخليفة ، وقد أحسن علي -رضي الله عنه-
استقبال السيدة عائشة وأعادها الى المدينة المنورة معززة مكرمة ، بعد أن جهزها بكل ما تحتاج اليه ، ثم
توجه بعد ذلك الى الكوفة في العراق ، واستقر بها..
وبذلك أصبحت عاصمة الدولة الاسلامية 0

مواجــــهة معاويـــــة
قرر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - ( بعد توليه الخلافة ) عزل معاوية بن أبي سفيان عن ولاية الشام ،
غير أن معاوية رفض ذلك ، كما امتنع عن مبايعته بالخلافة ، وطالب بتسليم قتلة عثمان -رضي الله عنه-
ليقوم معاوية باقامة الحد عليهم ، فأرسل الخليفة الى أهل الشام يدعوهم الى مبايعته ، وحقن دماء
المسلمين ، ولكنهم رفضوا ، فقرر المسير بقواته اليهم وحملهم على الطاعة ، وعدم الخروج على جماعة
المسلمين ، والتقت قوات الطرفين عند ( صفين ) بالقرب من الضفة الغربية لنهر الفرات ، وبدأ بينهما القتال
يوم الأربعاء (1 صفر عام 37 هجري ) .
وحينما رأى معاوية أن تطور القتال يسير لصالح علي وجنده ، أمر جيشه فرفعوا المصاحف على ألسنة الرماح ،
وقد أدرك الخليفة خدعتهم وحذر جنوده منها وأمرهم بالاستمرار في القتال ، لكن فريقا من رجاله ، اضطروه
للموافقة على وقف القتال وقبول التحكيم ، بينما رفضه فريق آخر وفي رمضان عام 37 هجري اجتمع..
عمر بن العاص ممثلا عن معاوية وأهل الشام ، وأبو موسى الأشعري عن علي وأهل العراق ، واتفقا على
أن يتدارسا الأمر ويعودا للاجتماع في شهر رمضان من نفس العام ،..
وعادت قوات الطرفين الى دمشق والكوفة ، فلما حان الموعد المتفق عليه اجتمعا ثانية ، وكانت نتيجة
التحكيم لصالح معاوية .

الخــوارج
علن فريق من جند علي رفضهم للتحكيم بعد أن اجبروا عليا -رضي الله عنه- على قبوله ، وخرجوا على
طاعته ، فعرفوا لذلك باسم الخوارج ، وكان عددهم آنذاك حوالي اثني عشر ألفا ، حاربهم الخليفة وهزمهم
في معركة (النهروان) عام 38 هجري ، وقضى على معظمهم ، ولكن تمكن بعضهم من النجاة والهرب
وأصبحوا منذ ذلك الحين مصدر كثير من القلاقل في الدولة الاسلامية .

استشهــــاده
لم يسلم الخليفة من شر هؤلاء الخوارج اذ اتفقوا فيما بينهم على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص في
ليلة واحدة ظنا منهم أن ذلك يحسم الخلاف ويوحد كلمة المسلمين على خليفة جديد ترتضيه كل الأمة ،
وحددوا لذلك ثلاثة من بينهم لتنفيذ ما اتفقوا عليه ، ونجح عبد الرحمن بن ملجم فيما كلف به ، اذ تمكن من
طعن علي -رضي الله عنه- بالسيف وهو خارج لصلاة الفجر من يوم الجمعة الثامن عشر من رمضان عام
أربعين هجرية بينما أخفق الآخران.
وعندما هجم المسلمون على ابن ملجم ليقتلوه نهاهم علي قائلا :
( ان أعش فأنا أولى بدمه قصاصا أو عفوا ، وان مت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين ، ولا تقتلوا بي
سواه ، ان الله لا يحب المعتدين
) وحينما طلبوا منه أن يستخلف عليهم وهو في لحظاته الأخيرة قال لهم:
(لا آمركم ولا أنهاكم ، أنتم بأموركم أبصر ) واختلف في مكان قبره وباستشهاده -رضي الله عنه-
انتهى عهد الخلفاء الراشدين.









عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:20 AM
المشاركة 110

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



نـــــسبــــه

طلحة بن عبيـد اللـه بن عثمان التيمـي القرشي المكي المدني ، أبو محمـد لقد كان في تجارة له بأرض بصرى ،
حين لقي راهبا من خيار رهبانها ، وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من أرض الحرم ، قد أهل عصره ، ونصحه باتباعه
وعاد الى مكـة ليسمع نبأ الوحي الذي يأتي الصادق الأميـن ، والرسالة التي يحملها ، فسارع الى أبي بكر
فوجـده الى جانب محمد مؤمنا ، فتيقن أن الاثنان لن يجتمعا الا علـى الحق ، فصحبه أبـو بكر الى الرسـول
-صلى الله عليه وسلم- حيث أسلم وكان من المسلمين الأوائل.

إيــمــانـــه
لقد كان طلحة -رضي الله عنه- من أثرياء قومه ومع هذا نال حظه من اضطهاد المشركين ، وهاجر الى المدينة
وشهد المشاهد كلها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- الا غزوة بدر ..
فقد ندبه النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه سعيد بن زيد الى خارج المدينة ، وعند عودتهما عاد المسلمون
من بدر ، فحزنا الا يكونا مع المسلمين ..
فطمأنهما النبي -صلى الله عليه وسلم-..
بأن لهما أجر المقاتلين تماما ، وقسم لهما من غنائم بدر كمن شهدها وقد سماه الرسول الكريم يوم أحُد..
( طلحة الخير ) وفي غزوة العشيرة ( طلحة الفياض ) ويوم حنين ( طلحة الجود ).

بطــولتــــه يــوم أحــد
في أحد أبصر طلحة -رضي الله عنه- جانب المعركة الذي يقف فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلقيه
هدفا للمشركين ، فسارع وسط زحام السيوف والرماح الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرآه والدم
يسيل من وجنتيه ، فجن جنونه وقفز أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضرب المشركين بيمينه
ويساره ، وسند الرسول -صلى الله عليه وسلم وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه ..
ويقول أبو بكر - رضي الله عنه- عندما يذكر أحدا :
( ذلك كله كان يوم طلحة ، كنت أول من جاء الى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي الرسول ولأبي
عبيدة بن الجراح: "دونكم أخاكم " ونظرنا ، واذا به بضع وسبعون بين طعنة وضربة ورمية ، واذا أصبعه
مقطوعة ، فأصلحنا من شأنه
).
وقد نزل قوله تعالى : " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من
ينتظر ، وما بدلوا تبديلا
" .
تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية أمام الصحابة الكرام ، ثم أشار الى طلحة قائلا :
( من سره أن ينظر الى رجل يمشي على الأرض ، وقد قضى نحبه ، فلينظر الى طلحة )
ما أجملها من بشرى لطلحة -رضي الله عنه- ، فقد علم أن الله سيحميه من الفتنة طوال حياته وسيدخله
الجنة فما أجمله من ثواب.

عطائــه وجــوده
وهكذا عاش طلحة -رضي الله عنه- وسط المسلمين مرسيا لقواعد الدين ، مؤديا لحقوقه ، واذا أدى حق ربه
اتجه لتجارته ينميها ، فقد كان من أثرى المسلمين ، وثروته كانت دوما في خدمة الدين ، فكلما أخرج منها
الشيء الكثير ، أعاده الله اليه مضاعفا ، تقول زوجته سعدى بنت عوف:
( دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما ، فسألته : ما شأنك ؟ فقال : المال الذي عندي ، قد كثر حتى
أهمني وأكربني وقلت له: ما عليك ، اقسمه فقام ودعا الناس ، وأخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه
درهما
)
وفي احدى الأيام باع أرضا له بثمن عال ، فلما رأى المال أمامه فاضت عيناه من الدمع وقال :
( ان رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري مايطرق من أمر ، لمغرور بالله )
فدعا بعض أصحابه وحملوا المال معه ومضى في الشوارع يوزعها حتى أسحر وما عنده منها درهما..
وكان -رضي الله عنه- من أكثر الناس برا بأهله وأقاربه ، وكان يعولهم جميعا ، لقد قيل :
( كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا الا كفاه مئونته ، ومئونة عياله )
( وكان يزوج أياماهم ، ويخدم عائلهم ، ويقضي دين غارمهم )
ويقول السائب بن زيد : ( صحبت طلحة بن عبيد الله في السفر و الحضر فما وجدت أحدا ، أعم سخاء على
الدرهم ، والثوب ، والطعام من طلحة
).

طلحــة والفتنــه
عندما نشبت الفتنة في زمن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أيد طلحة حجة المعارضين لعثمان ، وزكى
معظمهم فيما ينشدون من اصلاح ، ولكن أن يصل الأمر الى قتل عثمان -رضي الله عنه- ، لا لكان قاوم
الفتنة ، وما أيدها بأي صورة ، ولكن ماكان كان ، أتم المبايعة هو والزبير لعلي -رضي الله عنهم جميعا-
وخرجوا الى مكة معتمرين ، ومن هناك الى البصرة للأخذ بثأر عثمان..
وكانت ( وقعة الجمل ) عام 36 هجري طلحة والزبير في فريق وعلي في الفريق الآخر ، وانهمرت دموع
علي -رضي الله عنه- عندما رأى أم المؤمنين ( عائشة ) في هودجها بأرض المعركة ، وصاح بطلحة:
( يا طلحة ، أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها ، وخبأت عرسك في البيت ؟)
ثم قال للزبير: ( يا زبير : ناشدتك الله ، أتذكر يوم مر بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمكان
كذا ، فقال لك : يا زبير ، ألا تحب عليا ؟؟ فقلت : ألا أحب ابن خالي ، وابن عمي ، ومن هو على ديني ؟
فقال لك : يا زبير ، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم
)
فقال الزبير: ( نعم أذكر الآن ، وكنت قد نسيته ، والله لاأقاتلك ).

الشهــــاده
وأقلع طلحـة و الزبيـر -رضي الله عنهما- عن الاشتراك في هذه الحرب ، ولكن دفعـا حياتهما ثمنا لانسحابهما ،
و لكن لقيا ربهما قريرة أعينهما بما قررا ، فالزبير تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غدرا وهو يصلي ،
وطلحة رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته..
وبعد أن انتهى علي -رضي الله عنه- من دفنهما ودعهما بكلمات أنهاها قائلا :
اني لأرجو أن أكون أنا وطلحـة والزبيـر وعثمـان من الذين قال الله فيهم :
( ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين ) ثم نظر الى قبريهما وقال :
( سمعت أذناي هاتان) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : ( طلحة و الزبير ، جاراي في الجنة ).

قبـــــر طلحــة
مّا قُتِلَ طلحة دُفِنَ الى جانب الفرات ، فرآه حلماً بعض أهله فقال :
( ألاّ تُريحوني من هذا الماء فإني قد غرقت ) قالها ثلاثاً ، فأخبر من رآه ابن عباس ، فاستخرجوه بعد بضعة
وثلاثين سنة ، فإذا هو أخضر كأنه السِّلْق ، ولم يتغير منه إلا عُقْصته ، فاشتروا له داراً بعشرة آلاف ودفنوه
فيها ، وقبره معروف بالبصرة ، وكان عمره يوم قُتِلَ ستين سنة وقيل أكثر من ذلك.









عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:21 AM
المشاركة 111

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



نــــسبــــه

الزبير بن العوام يلتقي نسبه مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-في ( قصي بن كلاب ) كما أن أمه ( صفية )
عمة رسول الله ، وزوجته أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين ، كان رفيع الخصال عظيم الشمائل ، يدير تجارة
ناجحة وثراؤه عريضا لكنه أنفقه في الإسلام حتى مات مدينا .

الزبيـــر وطلحـــة
رتبط ذكرالزبيـر دوما مع طلحة بن عبيد الله ، فهما الاثنان متشابهان في النشأة والثراء والسخاء والشجاعة
وقوة الدين ، وحتى مصيرهما كان متشابها فهما من العشرة المبشرين بالجنة وآخى بينهما الرسول
-صلى الله عليه وسلم- ، ويجتمعان بالنسب والقرابة معه ، وتحدث عنهما الرسول قائلا:
( طلحة والزبيـر جاراي في الجنة ) ،
و كانا من أصحاب الشورى الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب لإختيار خليفته.

أول سيــف شهـر الأسـلام
أسلم الزبير بن العوام وعمره خمس عشرة سنة ، وكان من السبعة الأوائل الذين سارعوا بالإسلام ، وقد
كان فارسا مقداما ، وإن سيفه هو أول سيف شهر بالإسلام ، ففي أيام الإسلام الأولى سرت شائعة بأن
الرسول الكريم قد قتل ، فما كان من الزبير إلا أن استل سيفه وامتشقه ، وسار في شوارع مكة كالإعصار ،
وفي أعلى مكة لقيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأله ماذا به ؟
فأخبره النبأ فصلى عليه الرسول ودعا له بالخير ولسيفه بالغلب.

إيمـانه وصبــره
كان للزبير -رضي الله عنه- نصيبا من العذاب على يد عمه ، فقد كان يلفه في حصير ويدخن عليه بالنار كي
تزهق أنفاسه ، ويناديه: ( اكفر برب محمد أدرأ عنك هذا العذاب )
فيجيب الفتى الغض : ( لا والله ، لا أعود للكفر أبدا ) ويهاجر الزبير الى الحبشة الهجرتين ، ثم يعود ليشهد
المشاهد كلها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-.!

غـــزوة أحـــد
في غزوة أحد وبعد أن انقلب جيش قريش راجعا الى مكة ، ندب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الزبير وأبوبكر
لتعقب جيش المشركين ومطاردته ، فقاد أبوبكر والزبير -رضي الله عنهما- سبعين من المسلمين قيادة ذكية ،
أبرزا فيها قوة جيش المسلمين ، حتى أن قريش ظنت أنهم مقدمة لجيش الرسول القادم لمطاردتهم..
فأسرعوا خطاهم لمكة هاربين.

بنــو قــريــظة
وفي يوم الخندق قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- : ( مَنْ رجلُ يأتينا بخبر بني قريظة ؟)
فقال الزبير : ( أنا ) فذهب ، ثم قالها الثانية فقال الزبير: ( أنا ) فذهب ، ثم قالها الثالثة فقال الزبيـر : ( أنا )
فذهب ، فقال النبـي -صلى الله عليه وسلم- : ( لكل نبيّ حَوَارِيٌّ، والزبيـر حَوَاريَّ وابن عمتي )
وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أرسل الرسول الزبيـر
وعلي بن أبي طالب فوقفا أمام الحصن يرددان: (والله لنذوقن ماذاق حمزة ، أو لنفتحن عليهم حصنهم )
ثم ألقيا بنفسيهما داخل الحصن وبقوة أعصابهما أحكما وأنزلا الرعب في أفئدة المتحصـنين داخله وفتحا
للمسلمين أبوابه.

يـــوم حنيــــن
وفي يوم حنين أبصر الزبيـر ( مالك بن عوف ) زعيم هوازن وقائد جيوش الشرك في تلك الغزوة ، أبصره واقفا
وسط فيلق من أصحابه وجيشه المنهزم ، فاقتحم حشدهم وحده ، وشتت شملهم وأزاحهم عن المكمن
الذي كانوا يتربصون فيه ببعض المسلمين العائدين من المعركة.

حبــه للجهــــاد
كان الزبير بن العوام شديد الولع بالشهادة ، فهاهو يقول :
( إن طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء ، وقد علم ألا نبي بعد محمد ، وإني لأسمي بنيّ
بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون
).
وهكذا سمى ولده عبد الله تيمنا بالشهيد عبد الله بن جحش ..
وسمى ولـده المنـذر تيمنا بالشهيد المنـذر بن عمـرو..
وسمى ولـده عـروة تيمنا بالشهيد عـروة بن عمـرو..
وسمى ولـده حمـزة تيمنا بالشهيد حمزة بن عبد المطلب..
وسمى ولـده جعفـراً تيمنا بالشهيد جعفر بن أبي طالب..
وسمى ولـده مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عميـر..
وسمى ولـده خالـدا تيمنا بالشهيد خالـد بن سعيـد..
وهكذا أسماهم راجيا أن ينالوا الشهادة في يوم ما ..

وصيــــته
كان توكله على الله منطلق جوده وشجاعته وفدائيته ، وحين كان يجود بروحه أوصى ولده عبد الله بقضاء ديونه
قائلا: ( إذا أعجزك دين ، فاستعن بمولاي ) وسأله عبد الله: ( أي مولى تعني ؟)
فأجابه : ( الله ، نعم المولى ونعم النصير ) يقول عبدالله فيما بعد : ( فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت:
يا مولى الزبير اقضي دينه ، فيقضيه
).

موقعـــة الجمــــل
بعد استشهاد عثمان بن عفان أتم المبايعة الزبير و طلحة لعلي -رضي الله عنهم جميعا- وخرجوا الى مكة
معتمرين ، ومن هناك الى البصرة للأخذ بثأر عثمان ، وكانت ( وقعة الجمل ) عام 36 هجري طلحة والزبير
في فريق وعلي في الفريق الآخر ، وانهمرت دموع علي -رضي الله عنه- عندما رأى أم المؤمنين ( عائشة )
في هودجها بأرض المعركة ، وصاح بطلحة :
( يا طلحة ، أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها ، وخبأت عرسك في البيت ؟) ثم قال للزبير:
( يا زبير : نشدتك الله ، أتذكر يوم مر بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمكان كذا ، فقال لك :
يا زبير ، الا تحب عليا ؟؟
فقلت: ألا أحب ابن خالي ، وابن عمي ، ومن هو على ديني ؟؟
فقال لك : يا زبير ، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم
) فقال الزبير :
( نعم أذكر الآن ، وكنت قد نسيته ، والله لاأقاتلك ) وأقلع طلحة و الزبير -رضي الله عنهما- عن الاشتراك في
هذه الحرب ، ولكن دفعا حياتهما ثمنا لانسحابهما ، و لكن لقيا ربهما قريرة أعينهما بما قررا فالزبير تعقبه
رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غدرا وهو يصلي ، وطلحة رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته .

الشهــــاده
لمّا كان الزبير بوادي السباع نزل يصلي فأتاه ابن جرموز من خلفه فقتله و سارع قاتل الزبير الى علي يبشره
بعدوانه على الزبير ويضع سيفه الذي استلبه بين يديه ، لكن عليا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير..
يستأذن وأمر بطرده قائلا : ( بشر قاتل ابن صفية بالنار ) وحين أدخلوا عليه سيف الزبير قبله الإمام وأمعن
في البكاء وهو يقول : ( سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله )
وبعد أن انتهى علي -رضي الله عنه- من دفنهما ودعهما بكلمات انهاها قائلا :
( اني لأرجو أن أكون أنا وطلحـة والزبيـر وعثمان من الذين قال الله) فيهم:
( ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين ) ثم نظر الى قبريهما وقال :
( سمعت أذناي هاتان رسول الله )-صلى الله عليه وسلم- يقول: ( طلحة و الزبير ، جاراي في الجنة )









عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:22 AM
المشاركة 112

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



أسلامـــه

كان سعد -رضي الله عنه- من النفر الذين دخلوا في الاسلام أول ما علموا به فلم يسبقه الا أبوبكر و علي
وزيد و خديجة قال سعد :
بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوا الى الاسلام مستخفيا فعلمت أن الله أراد بي خيرا
وشاء أن يخرجني بسببه من الظلمات الى النور فمضيت اليه مسرعا حتى لقيته في شعب جياد وقد صلى
العصر فأسلمت فما سبقني أحد الا أبي بكر وعلي وزيد -رضي الله عنهم- ، وكان ابن سبع عشرة سنة
كما يقول سعد -رضي الله عنه- : ( لقد أسلمت يوم أسلمت وما فرض الله الصلوات ).

ثـــورة أمــــه
يقول سعد -رضي الله عنه- : ( وما سمعت أمي بخبر اسلامي حتى ثارت ثائرتها وكنت فتى بارا بها محبا لها)
فأقبلت علي تقول: ( يا سعد ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين أمك و أبيك؟ والله لتدعن دينك
الجديد أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فيتفطر فؤادك حزنا علي ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت وتعيرك
الناس أبد الدهر
) فقلت: لاتفعلي يا أماه فأنا لا أدع ديني لأي شيء الا أن أمه اجتنبت الطعام ومكثت أياما
على ذلك فهزل جسمها وخارت قواها فلما رأها سعد قال لها:
( يا أماه اني على شديد حبي لك لأشد حبا لله ولرسوله ووالله لو كان لك ألف نفس فخرجت منك نفسا بعد
نفس ما تركت ديني هذا بشيء
) فلما رأت الجد أذعنت للأمر وأكلت وشربت على كره منها.
ونزل قوله تعالى: "ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي
ولوالديك الي المصير وأن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا
معروفا واتبع سبيل من أناب الي ثم الي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون
" .

أحـد العشـرة المبشريـن بالجنة
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم يجلس بين نفر من أصحابه ، فرنا ببصره الى الأفق في إصغاء من يتلقى
همسا وسرا ، ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم : ( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )
وأخذ الصحاب يتلفتون ليروا هذا السعيد ، فإذا سعد بن أبي وقاص آت وقد سأله عبدالله بن عمرو بن العاص
أن يدله على ما يتقرب به الى الله من عبادة وعمل فقال له :
( لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد ، غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا ).

الدعــوة المجــابـــة
كان سعد بن أبي وقاص إذا رمى عدوا أصابه وإذا دعا الله دعاء أجابه ، وكان الصحابة يردون ذلك لدعوة الرسول
-صلى الله عليه وسلم- له : ( اللهم سدد رميته ، وأجب دعوته ) ويروى أنه رأى رجلا يسب طلحة وعليا
والزبير فنهاه فلم ينته فقال له: ( إذن أدعو عليك ) فقال الرجل: ( أراك تتهددني كأنك نبي !)
فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع يديه قائلا :
( اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما سبقت لهم منك الحسنى ، وأنه قد أسخطك سبه إياهم ،
فاجعله آية وعبرة
) فلم يمض غير وقت قصير حتى خرجت من إحدى الدور ناقة نادّة لا يردها شيء ، حتى
دخلت في زحام الناس ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها ، ومازالت تتخبطه حتى مات.

أول دم اريـــق في الاسلام
كان أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا صلوا ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ،
فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من الصحابة في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من ..
المشركين وهم يصلون ، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد -رضي الله عنه-
يومئذ رجلاً من المشركين بلحي بعير فشجه ( العظم الذي فيه الأسنان ) ، فكان أول دم هريق في الإسلام.

أول سهـــم رمي في الاســلام
بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سرية عبيدة بن الحارث -رضي الله عنه- الى ماء بالحجاز أسفل ثنية
المرة فلقوا جمعا من قريش ولم يكن بينهم قتال ألا أن سعد قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به
في الاسلام .

غزوة أحـــــد
وشارك في أحد وتفرق الناس أول الأمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقف سعد يجاهد ويقاتل
فلما رآه الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرمي جعل يحرضه ويقول له: ( يا سعد ارم فداك أبي وأمي )
وظل سعد يفتخر بهذه الكلمة طوال حياته ويقول: ( ما جمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأحد أبويه الا لي )
وذلك حين فداه بهما.

إمـــرة الجيــــش
عندما احتدم القتال مع الفرس ، أراد أمير المؤمنين عمر أن يقود الجيش بنفسه ، ولكن رأى الصحابة أن تولى
هذه الإمارة لرجل آخر واقترح عبدالرحمن بن عوف : ( الأسد في براثنه ، سعد بن مالك الزهري )
وقد ولاه عمر -رضي الله عنه- امرة جيش المسلمين الذي حارب الفرس في القادسية وكتب الله النصر
للمسلمين وقتلوا الكافرين وزعيمهم رستم وعبر مع المسلمين نهر دجلة حتى وصلوا المدائن وفتحوها ،
وكان إعجازا عبور النهر بموسم فيضانه حتى أن سلمان الفارسي قد قال:
( إن الإسلام جديد ، ذللت والله لهم البحار ، كما ذللت لهم البر ، والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا ،
كما دخلوه أفواجا
) وبالفعل أمن القائد الفذ سعد مكان وصول الجيش بالضفة الأخرى بكتيبة الأهوال وكتيبة
الخرساء ، ثم اقتحم النهر بجيشه ولم يخسر جنديا واحدا في مشهد رائع ، ونجاح باهر ودخل سعد بن أبي
وقاص ايوان كسرى وصلى فيه ثماني ركعات صلاة الفتح شكرا لله على نصرهم.

إمــارة العــراق
ولاه عمر -رضي الله عنهما- إمارة العراق ، فراح سعد يبني ويعمر في الكوفة ، وذات يوم اشتكاه أهل الكوفة
لأمير المؤمنين فقالوا: ( إن سعدا لا يحسن يصلي ) ويضحك سعدا قائلا :
( والله إني لأصلي بهم صلاة رسول الله ، أطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الآخرين )
واستدعاه عمر الى المدينة فلبى مسرعا ، وحين أراد أن يعيده الى الكوفة ضحك سعدا قائلا:
( أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة ؟!) ويؤثر البقاء في المدينة.

الستــة اصحاب الشورى
و عندما حضرت عمر -رضي الله عنه- الوفاة بعد أن طعنه المجوسي جعل الأمر من بعده الى الستة الذين
مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض و أحدهم سعد بن أبي وقاص ، وقال عمر :
( إن وليها سعد فذاك ، وإن وليها غيره فليستعن بسعد ).

سعــد والفتنــه
اعتزل سعد الفتنة وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا له أخبارها ، وذات يوم ذهب إليه ابن أخيه هاشم بن عتبة
بن أبي وقاص ويقول له: ( يا عم ، ها هنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر ) فيجيبه سعد :
( أريد من مائة ألف سيف ، سيفا واحدا ، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا ، وإذا ضربت به الكافر قطع )
فتركه ابن أخيه بسلام وحين انتهى الأمر لمعاوية سأل سعدا: ( مالك لم تقاتل معنا ؟) فأجابه:
( إني مررت بريح مظلمة فقلت : أخ .. أخ .. وأنخت راحلتي حتى انجلت عني ) فقال معاوية:
( ليس في كتاب الله أخ .. أخ .. ولكن ) .
قال الله تعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى
فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله
).
وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة مع الباغية، فأجاب سعد قائلا :
( ما كنت لأقاتل رجلا -يعني علي بن أبي طالب- قال له الرسول : أنت مني بمنزلة هارون من موسى
إلا أنه لا نبي بعدي
).

وفــــاته
وعمر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- كثيرا وأفاء الله عليه من المال الخير الكثير لكنه حين أدركته الوفاة
دعا بجبة من صوف بالية وقال:
( كفنوني بها فاني لقيت بها المشركين يوم بدر واني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضا )
وكان رأسه بحجر ابنه الباكي فقال له : ( ما يبكيك يا بني ؟ إن الله لا يعذبني أبدا ، وإني من أهل الجنة )
فقد كان إيمانه بصدق بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كبيرا وكانت وفاته سنة خمس وخمسين
من الهجرة النبوية وكان آخر المهاجرين وفاة ، ودفن في البقيع.









عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:22 AM
المشاركة 113

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



نـــسبـــــه

عبد الرحمن بن عوف أحد الثمانية السابقين الى الإسلام ، عرض عليه أبو بكر الإسلام فما غُـمَّ عليه الأمر
ولا أبطأ ، بل سارع الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبايعه وفور إسلامه حمل حظـه من اضطهاد..
المشركين ، هاجر الى الحبشة الهجـرة الأولى والثانيـة ، كما هاجر الى المدينـة مع المسلميـن وشهـد
المشاهد كلها ، فأصيب يوم أُحُد بعشريـن جراحا إحداها تركت عرجا دائما في ساقه ، كما سقطت بعـض
ثناياه فتركت هتما واضحا في نطقه وحديثه.

التجــارة
كان -رضي الله عنه- محظوظا بالتجارة إلى حد أثار عَجَبه فقال :
( لقد رأيتني لو رفعت حجرا لوجدت تحته فضة وذهبا ) وكانت التجارة عند عبد الرحمن بن عوف عملاً وسعياً
لا لجمع المال ولكن للعيش الشريف ، وهذا ما نراه حين آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين
والأنصار ، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن ربيع ،فقال سعد لعبد الرحمن:
( أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا ، فانظر شطر مالي فخذه ، وتحتي امرأتان ، فانظر أيتهما أعجب لك حتى
أطلّقها وتتزوجها )
قال عبد الرحمن : ( بارك الله لك في أهلك ومالك ، دُلوني على السوق )
وخرج الى السوق فاشترى وباع وربح .

حــــق الله
كانت تجارة عبد الرحمن بن عوف ليست له وحده ، وإنما لله والمسلمون حقا فيها ، فقد سمع الرسول..
-صلى الله عليه وسلم- يقول يوما :
( يا بن عوف إنك من الأغنياء ، وإنك ستدخل الجنة حَبْوا ، فأقرض الله يُطلق لك قدميك ) ومنذ ذاك الحين
وهو يقرض الله قرضـا حسنا ، فيضاعفـه الله له أضعافـا ، فقد باع يوما أرضا بأربعين ألف دينار فرّقها جميعا
على أهله من بني زُهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين ،وقدّم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام ،
ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة.
وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله ، وأربعمائة دينار لكل من بقي ممن شهدوا بدرا
حتى وصل للخليفة عثمان نصيبا من الوصية فأخذها وقال :
( إن مال عبد الرحمن حلال صَفْو ، وإن الطُعْمَة منه عافية وبركة )
وبلغ من جود عبد الرحمن بن عوف أنه قيل :
( أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله ، ثُلث يقرضهم ، وثُلث يقضي عنهم ديونهم ، وثلث يصِلَهم
ويُعطيهم
) وخلّف بعده ذهبُ كثير ، ضُرب بالفؤوس حتى مجلت منه أيدي الرجال.

قافـلة الإيمــان
في أحد الأيام اقترب على المدينة ريح تهب قادمة اليها حسبها الناس عاصفة تثير الرمال ، لكن سرعان ما تبين
أنها قافلة كبيرة موقَرة الأحمال تزحم المدينة وترجَّها رجّا ، وسألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- :
( ما هذا الذي يحدث في المدينة ؟) وأُجيبت أنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف أتت من الشام تحمل تجارة له
فَعَجِبَت أم المؤمنين : ( قافلة تحدث كل هذه الرجّة ؟) فقالوا لها: ( أجل يا أم المؤمنين ، إنها سبعمائة راحلة )
وهزّت أم المؤمنين رأسها وتذكرت : ( أما أني سمعت) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
( رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حَبْوا ) و وصلت هذه الكلمات الى عبد الرحمن بن عوف ، فتذكر أنه
سمع هذا الحديث من النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة ، فحثَّ خُطاه الى السيدة عائشة وقال لها:
( لقد ذكَّرتني بحديث لم أنسه ) ثم قال :
( أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحْلاسِها في سبيل الله ) ووزِّعَت حُمولة سبعمائة راحلة
على أهل المدينة وما حولها.

الخـــوف
وثراء عبد الرحمن -رضي الله عنه- كان مصدر إزعاج له وخوف ، فقد جيء له يوما بطعام الإفطار وكان صائما ، فلما
وقعت عليه عيناه فقد شهيته وبكى ثم قال :
( استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني فكُـفّـن في بردة إن غطّت رأسه بدت رجلاه ، وإن غطّت رجلاه
بدا رأسه ، واستشهد حمزة وهو خير مني ، فلم يوجد له ما يُكَـفّـن فيه إلا بردة ، ثم بُسِـطَ لنا في الدنيا
ما بُسـط ، وأعطينا منها ما أعطينا وإني لأخشى أن نكون قد عُجّلـت لنا حسناتنا
) .
كما وضع الطعام أمامه يوما وهو جالس مع أصحابه فبكى ، وسألوه: ( ما يبكيك يا أبا محمد ؟)
قال : ( لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير ، ما أرانا أخّرنا
لما هو خير لنا
) .
وخوفه هذا جعل الكبر لا يعرف له طريقا ، فقد قيل :
( أنه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه ما استطاع أن يميزه من بينهم ).

الهروب من السلــطة
كان عبد الرحمن بن عوف من الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة لهم من بعده قائلا :
( لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض ) وأشار الجميع الى عبد الرحمن في أنه الأحق بالخلافة فقال :
( والله لأن تُؤخذ مُدْية فتوضع في حَلْقي ، ثم يُنْفَذ بها إلى الجانب الآخر ، أحب إليّ من ذلك ) وفور اجتماع
الستة لإختيار خليفة الفاروق تنازل عبد الرحمن بن عوف عن حقه الذي أعطاه إياه عمر ، وجعل الأمر بين
الخمسة الباقين ، فاختاروه ليكون الحكم بينهم وقال له علي -كرم الله وجهه- : ( لقد سمعت رسول الله..
-صلى الله عليه وسلم- يصفَك بأنك أمين في أهل السماء ، وأمين في أهل الأرض
)
فاختار عبد الرحمن بن عوف ( عثمان بن عفان ) للخلافة ، ووافق الجميع على إختياره.

وفــاتــه
في العام الثاني والثلاثين للهجرة جاد بأنفاسه -رضي الله عنه- وأرادت أم المؤمنين أن تخُصَّه بشرف لم تخصّ
به سواه ، فعرضت عليه أن يُدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر وعمر ، لكنه استحى أن يرفع..
نفسه الى هذا الجوار ، وطلب دفنه بجوار عثمان بن مظعون إذ تواثقا يوما أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار
صاحبه وكانت يتمتم وعيناه تفيضان بالدمع : ( إني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال )
ولكن سرعان ما غشته السكينة واشرق وجهه وأرْهِفَت أذناه للسمع كما لو كان هناك من يحادثه ، ولعله سمع
ما وعده الرسول -صلى الله عليه وسلم- : ( عبد الرحمن بن عوف في الجنة )








عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:23 AM
المشاركة 114

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



نــسبـــه

سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل العدوي القرشي ، أبو الأعور ، من خيار الصحابة ابن عم عمر بن الخطاب وزوج
أخته ، ولد بمكة عام ( 22 قبل الهجرة ) وهاجر الى المدينـة ، شهد المشاهد كلها إلا بدرا لقيامه مع طلحة
بتجسس خبر العير ، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، كان من السابقين الى الإسلام هو وزوجته أم جميل
( فاطمة بنت الخطـاب ).

والــده
وأبوه -رضي الله عنه- ( زيـد بن عمرو ) اعتزل الجاهليـة وحالاتها ووحّـد اللـه تعالى بغيـر واسطـة حنيفيـاً ، وقد
سأل سعيـد بن زيـد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال :
( يا رسـول الله ، إن أبـي زيـد بن عمرو بن نفيل كان كما رأيت وكما بَلَغَك ، ولو أدركك آمن بـك ، فاستغفر له ؟)
قال : ( نعم ) واستغفر له ، وقال : ( إنه يجيءَ يوم القيامة أمّةً وحدَهُ ).

أحد العشرة المبشرون بالجنــة
روي عن سعيد بن زيد أنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
( عشرة من قريش في الجنة ، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ،
وسعد بن مالك
( بن أبي وقاص ) ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل ، و أبو عبيدة بن الجراح )
رضي الله عنهم أجمعين .

الدعـوة المجابــــة
كان -رضي الله عنه- مُجاب الدعوة ، وقصته مشهورة مع أروى بنت أوس ، فقد شكته الى مروان بن الحكم ،
وادَّعت عليه أنّه غصب شيئاً من دارها ، فقال : ( اللهم إن كانت كاذبة فاعْمِ بصرها ، واقتلها في دارها )
فعميت ثم تردّت في بئر دارها ، فكانت منيّتُها.

الولايــــة
كان سعيد بن زيد موصوفاً بالزهد محترماً عند الوُلاة ، ولمّا فتح أبو عبيدة بن الجراح دمشق ولاّه إيّاها ، ثم نهض
مع مَنْ معه للجهاد ، فكتب إليه سعيد : ( أما بعد ، فإني ما كنت لأُوثرَك وأصحابك بالجهاد على نفسي وعلى
ما يُدْنيني من مرضاة ربّي ، وإذا جاءك كتابي فابعث إلى عملِكَ مَنْ هو أرغب إليه مني ، فإني قادم عليك
وشيكاً إن شاء الله والسلام
).

البيــــعة
كتب معاوية إلى مروان بالمدينة يبايع لإبنه يزيد ، فقال رجل من أهل الشام لمروان: ( ما يحبسُك ؟)
قال مروان : ( حتى يجيء سعيد بن زيد يبايع ، فإنه سيـد أهل البلد ، إذا بايع بايع الناس ) قال :
( أفلا أذهب فآتيك به ؟) وجاء الشامـي وسعيد مع أُبيّ في الدار ، قال: ( انطلق فبايع ) قال :
( انطلق فسأجيء فأبايع ) فقال : ( لتنطلقنَّ أو لأضربنّ عنقك ) قال :
( تضرب عنقي ؟ فوالله إنك لتدعوني إلى قوم وأنا قاتلتهم على الإسلام ).
فرجع إلى مروان فأخبره ، فقال له مروان : ( اسكت ) وماتت أم المؤمنين ( أظنّها زينب ) فأوصت أن يصلي
عليها سعيد بن زيد ، فقال الشامي لمروان : ( ما يحبسُك أن تصلي على أم المؤمنيـن ؟) قال مروان :
( أنتظر الذي أردت أن تضرب عنقـه ، فإنها أوصت أن يُصلي عليها ) فقال الشامي:
( أستغفر الله ).

وفـــاتـــــه
توفي بالمدينة سنة ( 51 هـ ) ودخل قبره سعد بن أبي الوقاص وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم أجمعين.









عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:24 AM
المشاركة 115

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )





نــــــسبـــــــــه

اأبوعبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهري ... يلتقي مع النبي-صلى الله عليه وسلم- في أحد أجداده
(فهر بن مالك ) وأمه من بنات عم أبيه .. أسلمت وقتل أبوه كافرا يوم بدر .
كان -رضي الله عنه- طويل القامة ، نحيف الجسم ، خفيف اللحية ، أسلم على يد أبي بكرالصديق في الأيام
الأولى للاسلام ، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية ثم عاد ليشهد مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
المشاهد كلها.

غــــزوة بـــدر
وفي غزوة بدر جعل أبو ( أبو عبيدة ) يتصدّى لأبي عبيدة ، فجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلمّا أكثر قصدَه فقتله ،
فأنزل الله هذه الآية .
قال تعالى :"( لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليومِ الآخر يُوادُّون مَنْ حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءَ هُم أو أبناءَ هم أو
إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتبَ في قلوبهم الأيمان ").

غـــزوة أحـــــــــد
يقول أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- لما كان يوم أحد ، ورمي الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى دخلت
في وجنته حلقتان من المغفر ، أقبلت أسعى الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وانسان قد أقبل من
قبل المشرق يطير طيرانا ، فقلت : اللهم اجعله طاعة ، حتى اذا توافينا الى رسول الله..
-صلى الله عليه وسلم- اذا هو أبوعبيدة بن الجراح قد سبقني ، فقال :
( أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتركته) ، فأخذ أبوعبيدة
بثنيته احدى حلقتي المغفر ، فنزعها وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه ، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته
الأخرى فسقطت ، ( فكان أبوعبيدة في الناس أثرم ).

غـــزوة الخــــبط
أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أباعبيدة بن الجراح أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشرة مقاتلا ، وليس معهم
من الزاد سوى جراب تمر ، والسفر بعيد ، فاستقبل أبوعبيدة واجبه بغبطة وتفاني ، وراح يقطع الأرض مع جنوده
وزاد كل واحد منهم حفنة تمر ، وعندما قل التمر أصبح زادهم تمرة واحدة في اليوم ، وعندما فرغ التمر راحوا
يتصيدون ( الخبط ) أي ورق الشجر فيسحقونه ويسفونه ويشربون عليه الماء ، غير مبالين الا بانجاز المهمة ،
لهذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط.

مكـــــانة أمين الأمـــــــة
قدم أهل نجران على النبي-صلى الله عليه وسلم- وطلبوا منه ان يرسل اليهم واحدا فقال:
عليه الصلاة والسلام( لأبعثن -يعني عليكم- أمينا حق امين ) فتشوف أصحابه رضوان الله عليهم يريدون
أن يبعثوا لا لأنهم يحبون الامارة أو يطمعون فيها ولكن لينطبق عليهم وصف النبي -صلى الله عليه و سلم-
"أمينا حق امين" وكان عمر نفسه-رضي الله عليه-من الذين حرصوا على الامارة لهذا آنذاك بل صار
-كما قال يتراءى- أي يري نفسه - للنبي صلى الله عليه وسلم- حرصا منه -رضي الله عنه- أن يكون أمينا حق
أمين ولكن النبي صلى الله عليه وسلم- تجاوز جميع الصحابة وقال قم يا أباعبيدة )
كما كان لأبي عبيدة مكانة عالية عند عمر فقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يجود بأنفاسه :
( لو كان أبوعبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته فان سألني ربي عنه ، قلت : استخلفت أمين الله ، وأمين رسوله ).

معـــــركة اليـــرموك
في أثناء قيادة خالد -رضي الله عنه- معركة اليرموك التي هزمت فيها الامبراطورية الرومانية توفي أبوبكر
الصديق -رضي الله عنه- ، وتولى الخلافة بعده عمر -رضي الله عنه- ، وقد ولى عمر قيادة جيش اليرموك لأبي
عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة وعزل خالد - وصل الخطاب الى أبىعبيدة فأخفاه حتى انتهت المعركة ، ثم
أخبر خالدا بالأمر ، فسأله خالد يرحمك الله أباعبيدة ، ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب ؟
( فأجاب أبوعبيدة اني كرهت أن أكسر عليك حربك ، وما سلطان الدنيا نريد ، ولا للدنيا نعمل ، كلنا في الله أخوة )
وأصبح أبوعبيدة أمير الأمراء بالشام0

تـــواضــــعة
ترامى الى سمعه أحاديث الناس في الشام عنه ، وانبهارهم بأمير الأمراء ، فجمعهم وخطب فيهم قائلا :
( يا أيها الناس ، اني مسلم من قريش ، وما منكم من أحد أحمر ولا أسود ، يفضلني بتقوى الا وددت أني
في اهابه !!
وعندما زار أمير المؤمنين عمر الشام سأل عن أخيه ، فقالوا له من ؟
( قال أبوعبيدة بن الجراح ) وأتى أبوعبيدة وعانقه أمير المؤمنين ثم صحبه الى داره ، فلم يجد فيها من
الأثاث شيئا ، الا سيفه وترسه ورحله ، فسأله عمر وهو يبتسم ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس ؟
( فأجاب أبوعبيدة يا أمير المؤمنين ، هذا يبلغني المقيل ).

طـــاعون عاموس
حل الطاعون بعمواس وسمي فيما بعد "طاعون عمواس" وكان أبوعبيدة أمير الجند هناك فخشي عليه عمر
من الطاعون فكتب اليه يريد أن يخلصه منه قائلا :
( اذا وصلك خطابي في المساء فقد عزمت عليك ألا تصبح الامتوجها الي واذا وصلك في الصباح ألا تمسي
الا متوجها الي فان لي حاجة اليك) وفهم أبوعبيدة المؤمن الذكي قصد عمر وانه يريد أن ينقذه من الطاعون
فكتب الى عمر متأدبا معتذرا عن عدم الحضور اليه وقال : ( لقد وصلني خطابك يا أمير المؤمنين وعرفت قصدك
وانما أنا في جند من المسلمين يصيبني ما أصابهم فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين)
ولما وصل الخطاب الى عمر بكى ، فسأله من حوله هل مات أبوعبيدة ؟
( فقال كأن قد)
والمعنى أنه اذا لم يكن قد مات بعد والا فهو صائر الى الموت لا محالة اذ لا خلاص منه مع الطاعون .

وفـــــاته
كان أبو عبيـدة -رضي الله عنه- في ستة وثلاثيـن ألفاً من الجُند ، فلم يبق إلاّ ستـة آلاف رجـل والآخرون ماتوا
مات أبوعبيـدة -رضي الله عنه- سنة (18) ثماني عشرة للهجرة في طاعون عمواس وقبره في غور الأردن
رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى










عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:25 AM
المشاركة 116

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



خالد بن الوليد - لا ينام ولا يترك أحدا ينام .. ان أمره لعجيب..!
هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام.. ألا فلنأت على قصته من البداية ،ولكن أية
بداية..؟
انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا ولو استطاع لنحّى عمره
وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..
فلنبدأ معه اذنمن حيث يحب ، من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من
يمين الرحمن، وكلتا يديه يمي، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل
الحق، ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..
لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا،
وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين،
فقال: " والله لقد استقام المنسم.. وان الرجل لرسول.. فحتى متى..؟ أذهب والله، فأسلم"..
ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته
من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين.
".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة، وخرجنا جميعا
فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم، قلنا : وبك..
قال : أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.
فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان ..
فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق،
فأسلمت وشهدت شهادة الحق.
فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير ، وبايعت رسول الله وقلت : استغفر لي كل
ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله.
فقال : ان الاسلام يجبّ ما كان قبله.. قلت : يا رسول الله على ذلك..
فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..
وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله
"...
أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟
ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في
حياة سيف الله وبطل الاسلام.
وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..
أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في
دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله
له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد.. مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا.
أتذكرون أنباء الثلاثة شهداؤ أبطال معركة مؤتة..؟
لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة ، لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام تلك
الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير وتذطرون العبارة
الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال :
" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا. ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا ، ثم أخذها
عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا
".
كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات.
هذه البقيّة هي : " ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".
فمن كان هذا البطل..؟
لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول
على الجيش : زيد، وجعفر وعبدالله ابن رواحة، والذين اساشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية
وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم
حتى لا بعثر الفوضى صفوفه ، ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد
قائلا له : " خذ اللواء يا أبا سليمان".. ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم
الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام ، أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!
هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم : " لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..
وأجابه ثابت : " خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته الا لك".
ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟ قالوا : نعم..
واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق
طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا ، في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان
مقدورا ، ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم
مهيض ، وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم ، ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من
المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا.
وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما،
أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.
بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان.، ولكن، اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن
أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟
هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط
في بديهته بسرعة الضوء. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها
وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش
المسلمين كله سليما معافى.
بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال،وفي هذه المعركة أنعم الرسول
على خالد بهذا اللقب العظيم ، وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون
تحت قيادته لفتح مكة،وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا، ويدخل خالد مكة، واحدا من
قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها.
قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة..
وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا
لأصنام عاجزة كاسدة. وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..
مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه
بغيا وعدوا، يعودون اليه على صهوات جسادهم الصاهلة، وتحت رايات الاسلام الخافقة.
وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا،
وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد.. كيف تمّت المعجزة..؟
أي تفسير لهذا الذي حدث؟ لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم
حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين: (وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!
ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:
أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده.. ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم
الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة وليس من الذين سيحملهم الفتح على
الاسلام ويظل خالد الى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه،
ونذر له كل حياته، وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة.
وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه
لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!
وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم
الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم.
عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر
على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم.
ولكنه ازداد تصميما.
ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه
الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة،
والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة، ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم
من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض، لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة،
سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ
خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!
ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..
ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم، ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش
جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين.
واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من
حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!
عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب
ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم ، ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة.
حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية.
وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن
كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ
بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له: " الى أين يا خليفة رسول الله..؟
اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد : لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."
وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة
مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها ، وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا
ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف
من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين
"..
ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة
الفاصلة، فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردو قاطبة،
يقوده مسيلمة الكذاب ، وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا
وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد.. ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد
في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا.

والتقى الجيشان:
وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، اذ تجد نفسك أمام
معركة تشبه في ضراوتها زجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان تلّفت في نوع السلاح وظروف القتال.
ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من
الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!
وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا
كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!
وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة
ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها، رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي
دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه..
فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة.
ثم صاح بصوته المنتصر: " امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ" .. وامتازوا جميعا..
مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".
وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت
عزما وروعة، وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا، فتتحوّل سيوف جيشه
الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها ، وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة
يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!
لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال
عبقريّته الباهرة ، وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة ، وملأت جثث رجاله وجيشه
أرض القتال، وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب ، وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال
صلاة الشكر، اذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل.. وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة
وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام.
امبرطوريتان خرعتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام
سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة،
يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!
هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..
ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.
لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه.
" بسم الله الرحمن الرحيم .. من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس. . يلام على من اتبع الهدى
أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم
من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا اذا جاءكم كتابي
فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة والا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون
الحياة
".. وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق،
فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.
في الأبلّة، الى السّدير، فالنّجف، الى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان
تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون ، أجل، الضعفاء
والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب.
وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:
" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، الا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".
وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام ، وهناك دوّت أصوات المؤذنين،
وتكبيرات الفاتحين.
ترى هل سمع الروم في الشام..؟ وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟
أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!
كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام، فجنّد الصدّيق
أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد
بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان، وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه
وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة.
بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا: " والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..
وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأ{بعين ألفا.
وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر: " والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..
وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام، ليكون
أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها، وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى
بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة
تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا
فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه : " ان هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي.
أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الامارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد،
حتى يتأمّر كلكم"... هذا يوم من أيام الله.. ما أروعها من بداية..لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!
ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغممن أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل
أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة
وجعلها دولة بينهم، اليوم أمير، ودغا أمي رثان.. وبعد غد أمير آخر.. وهكذا، كان جيش الروم بأعداده وبعتاده،
شيئا بالغ الرهبة ، لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان
لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث
لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم
المقدامة قلقا وخوفا ، ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل
والنصر يغمرهم بسناه..!!
ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:
" خالد لها".!!
وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".. فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!
عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد
أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها ، ومن عجب أن المعركة دارت كما
رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما
أخطأ التقدير والحساب..!! كل مناورة توقعها من الروم صنعوها.. كا انسحاب تنبأ به فعلوه..
وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم
حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع ، وكان خالد يتمثل عبقرية النصر
في شيء واحد، هو الثبات ، وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من
الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره ، من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي
هاربا ، وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول
مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:
" من يولّي هاربا فاقتلنه".. وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!
وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ، وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق
جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين.
" وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا" " قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..
فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم
أبعث اليكم بمثلها
". وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب.
وقرر أن يردذ عليه بجواب مناسب، فقال له:
" انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من
دم الروم، فجئنا لذلك
"..!!
ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال. " الله أكبر" " هبّي رياح الجنة".
كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.، ودار قتال ليس لضراوته نظير.، وأقبل الروم في فيالق كالجبال.
وبجا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون، ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم.
فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:
" اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه
فيجيب أبو عبيدة: " نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".
ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب
بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!
وهذا عكرمة بن أبي جهل.. أجل ابن أبي جهل.. نادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:
" لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم
ثم يصيح:" من يبايع على الموت". فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة
لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم، فيستشهدون..!!
وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى
الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الامء، اشار بدوره لجاره.
فلا انتقل اليه أشار بدوره لجاره ، وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة، ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!
أجل.. لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.
ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد
على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة
الذين معه: " والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.
واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم
". مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!! ولكن أي عجب؟
أليس مالء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير.. وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟
وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهدى ونبلا؟
وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة’ العاصمة
الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟
وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر، والصفلف، والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على
قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟ أليس ذلك، كذلك..؟ اذن، هبي رياح النصر.،هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة.
لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز
اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.
وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا: " يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..
هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته
"؟؟
قال خالد: لا.. قال الرجل: فبم سميّت يبف الله
قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى
الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه.. فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت..
سيف الله". قال القائد الرومي: والام تدعون..؟ قال خالد: الى توحيد الله، والى الاسلام.
قال: هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكممن المثوبة والأجر؟
قال خالد: نعم وأفضل.. قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟
قال خالد: لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع
ما سمعنا أن يسلم في يسر ، أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر
اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.
وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:
علمني الاسلام يا خالد"".! وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان
القتال ، وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستيتا في طلب لبشهادة حتى نالها وظفر بها..!
وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها ، اذ كان خالد يقود جيوش
المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب،
واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وفيه تحيّة الفاروق
للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي
عبيدة بن الجرّاح مكانه.
قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر ،ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح
لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.
استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا.
ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم ، وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده ، وظنها
أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في السحبان بيد أنه ما فتئ
أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..
وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة
النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة ، وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي
يعنينا ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق
وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف... فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..
ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين
الذي اعتنقه وسار تحت رايته وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!
ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة
المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..

أبو بكر وعمر..
اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان.
وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة،
لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد.. ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ
من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد لم يكن أمير المؤمنين
عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..
ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال: " ان في سيف خالد رهقا"
أي خفة وحدّة وتسرّع.. فأجابه الصدّيق قائلا: " ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".
لم يقل عمر ان في خالد رهقا بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين
فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا.. وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد.. فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه
كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية.
ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه
أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن
يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا
الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له: " يا رسول الله..
استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله
".
وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على
الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه والسيف حين يكون
في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير منوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم
بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة،
وحدّته الخاطفة.. وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.
فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:
" اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".
غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله
عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله
بقوله: " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد". ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.
وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له: ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم
عن الاسلام.. كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله ولو أننا
نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية
الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.
فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:
" يا عزّى كفرانك، لا سبحانك اني رأيت الله قد أهانك".. ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!
كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت
أعلامه ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه.. والا.." كفرانك لا سبحانك..اني رأيت الله قد أهانك"..!!
على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير
المؤمنين قوله: " عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!
لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة
أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به.
ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.
نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..أما آن له أن يستريح..؟
هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟
أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:
" الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟
أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة،
ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام ، ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل
الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة.
وأنه ليقول: " ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في
سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين
". من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو
الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه، هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم،
وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى
فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام ،أميرا يحملشظف الجندي وتواضعه
وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته ،كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!
هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه:
" لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أ، رمية سهم.
ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء
"..!
كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل،
شرع يملي وصيّته.. أتجرون الى من أوصى..؟ الى عمر بن الخطاب ذاته..!
أتدرون ما تركته..؟ فرسه وسلاحه..!
ثم ماذا؟ لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!
ذلك أنه لم يكن يستحزذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.
وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة
تلك هي قلنسوته".سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها فلما عوتب في ذلك
قال: " ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر
".
وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما
بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:
أنت خير من ألف ألف من القو م اذا ما كبت وجوه الرجال أشجاع..؟
فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال أجواد..؟
فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا..
وقال: " صدقت.. والله ان كان لكذلك".. وثوى البطل في مرقده.. ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم
هاجعة، خاشعة، صامتة ، لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها،
وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه ، واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب
لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح ، تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم،
ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك.
وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!
ثم مقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من آقيها تسيل دموع غزار وكبار..!
لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله ، ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟
وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟ ايه يا بطل كل نصر.. ويا فجر كل ليلة، لقد كنت تعلو بروح جيشك على
أهوال الزحف بقولك لجندك: " عند الصباح يحمد القوم السرى
".حتى ذهبت عنك مثلا.. وهأنتذا، قد أتممت
مسراك.. فلصباحك الحمد أبا سليمان.. ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!
ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:
" رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير مما كان فيه ولقد عاش حميدا .. ومات سعيدا".










عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:26 AM
المشاركة 117

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



حمزة بن عبد المطلب - أسد الله وسيّد الشهداء

كانت مكة تغطّ في نومها، بعد يوم مليء بالسعي، وبالكدّ، وبالعبادة وباللهو..
والقرشيون يتقلبون في مضاجعهم هاجعين.. غير واحد هناك يتجافى عن المضجع جنباه، يأوي الى فراشه
مبركا، ويستريح ساعات قليلة، ثم ينهض في شوق عظيم، لأنه مع الله على موعد، فيعمد الى مصلاه في
حجرته، ويظل يناجي ربه ويدعوه.. وكلما استيقظت زوجته على أزير صدره الضارع وابتهالاته الحارّو الملحة،
وأخذتها الشفقة عليه، ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من النوم، يجيبها ودموع عينيه تسابق كلماته:
" لقد انقضى عهد النوم يا خديجة"..!!
لم يكن أمره قد أرّق قريش بعد، وان كان قد بدأ يشغلا انتباهها، فلقد كان حديث عهد بدعوته..
وكان يقول كلمته سرا وهمسا..كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا..
وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والاجلال، ويطوي جوانحه على شوق عظيم
الى الايمان به والسير في قافلته المباركة، لا يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة، وضغوط التقاليد
والوراثة، والتردد بين نداء الغروب، ونداء الشروق.
من هؤلاء كان حمزة بن عبد المطلب.. عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.
كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله.. وكان على بيّنة من حقيقة أمره، وجوهر خصاله..
فهو لا يعرف معرفة العم بابن أخيه فحسب، بل معرفة الأخ بالأخ، والصديق بالصديق..
ذلك أن رسول الله وحمزة من جيل واحد، وسن متقاربة.
نشأ معا وتآخيا معا، وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة..
ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق، فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة، وافساح مكان
لنفسه بين زعماء مكة وسادات قريش..
في حين عكف محمد على اضواء روحه التي انطلقت تنير له الطريق الى الله وعلى حديث قلبه الذي نأى به
من ضوضاء الحياة الى التأمل العميق، والى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه..
نقول لئن كان شباب كل منهما قد اتخذ وجهة مغايرة، فان حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائل تربه
وابن أخيه.. تلك الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة، وترسم صورة
واضحة لمستقبله العظيم.
في صبيحة ذلك اليوم، خرج حمزة كعادته.
وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداتها فجلس معهم، يستمع لما يقولون..
وكانوا يتحدثون عن محمد..
ولأول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه.. وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد، والغيظ
والمرارة.
لقد كانوا من قبل لا يبالون، أو هم يتظاهرون بعدم الاكتراث واللامبالاة.
أما اليوم، فوجوههم تموج موجا بالقلق، والهمّ، والرغبة في الافتراس.
وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا.. ورماهم بالمبالغة، وسوء التقدير..
وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الانس علما بخطر ما يدعو اليه محمد ولكنه يريد أم يهوّن الأمر
حتى تنام قريش، ثم تصبح يوما وقد ساء صاحبها، وظهر أمر ابن أخيه عليها...
ومضوا في حديثهم يزمجرون، ويتوعدون.. وحمزة يبتسم تارّة، ويمتعض أخرى، وحين انفض الجميع وذهب
كل الى سبيله، كان حمزة مثقل الرأس بأفكار جديدة، وخواطر جديدة.
راح يستقبل بها أمر ابن أخيه، ويناقشه مع نفسه من جديد...!!!
ومضت الأيام، ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول..
ثم تتحوّل همهمة قريش الى تحرّش. وحمزة يرقب الموقف من بعيد..
ان ثبات ابن أخيه ليبهره.. وان تفانيه في سبيل ايمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها، برغم
ما عرفت من تفان وصمود..!!
ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه، فما كان هذا الشك
بقادر على أن يجد الى وعي حمزة منفا أو سبيلا..
فحمزة خير من عرف محمدا، من طفولته الباكرة، الى شباب الطاهر، الى رجولته الأمينة السامقة..
انه يعرفه تماما كما يعرف نغسه، بل أكثر مما يعرف نفسه، ومنذ جاءا الى الحياة معا، وترعرعا معا، وبلغا
أشدّهما معا، وحياة محمد كلها نقية كأشعة الشمس..!! لا يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة،
لا يذكر أنه رآه يوما غاضبا، أو قانطا، أو طامعا،أو لاهيا، أو مهزوزا...
وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب، بل وبرجاحة العقل، وقوة اارادة أيضا..
ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابهة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل الأمانة..
وهكذا طوى صدره الى حين على أمر سيتكشّف في يوم قريب..
وجاء اليوم الموعود..وخرج حمزة من داره،متوشحا قوسه، ميمّما وجهه شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة،
ورياضته الأثيرة، الصيد.. وكان صاحب مهارة فائقة فيه..
وقضى هناك بعض يومه، ولما عاد من قنصه، ذهب كعادته الى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا الى داره.
وقريبا من الكعبة، لقته خادم لعبدالله بن جدعان..
ولم تكد تبصره حتى قالت له:
" يا أبا عمارة.. لو رأيت ما اقي ابن أخيك محمد آنفا، من أبي الحكم بن هشام..
وجده جالسا هناك ، فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره
"..
ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول الله..واستمع حمزة جيدا لقولها، ثم أطرق لحظة، ثم مد يمينه
الى قوسه فثبتها فوق كتفه.. ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الطعبة راجيا أن يلتقي عندها بأبي
جهل.. فان هو لم يجده هناك، فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلاقيه..
ولكنه لا يكاد يبلغ الكعبة، حتى يبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش..
وفي هدوء رهيب، تقدّم حمزة من أبي جهل، ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه،
وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة، صاح حمزة في أبي جهل:
" أتشتم محمدا، وأنا على دينه أقول ما يقول..؟! الا فردّ ذلك عليّ ان استطعت"..
وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الاهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم لذي ينزف من رأسه،
وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت بهم طالصاعقة.. الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى
ما يراه، ويقول ما يقوله..أحمزة يسلم..؟ أعزّ فتيان قريش وأقواهم شكيمة..؟
انها الطامّة التي لن تملك قريش لها دفعا.. فاسلام حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالاسلام، وسيجد
محمد حوله من القوة والبأس ما يعزز دعوته ويشدّ ازره، وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم
أصنامها وآلهتها..!!
أجل أسلم حمزة، وأعلن على الملأ الأمر الذي كان يطوي عليه صدره، وترك الجمع الذاهل يجترّ خيبة أمله،
وأبا جهل يلعق دماءه النازفة من رأسه المشجوج.. ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى الى قوسه فثبتها فوق كتفه،
واستقبل الطريق الى داره في خطواته الثابتة، وبأسه الشديد..!
كان حمزة يحمل عقلا نافذا، وضميرا مستقيما..
وحين عاد الى بيته ونضا عنه متاعب يومه. جلس يفكر، ويدير خواطره على هذا الذي حدث له من قريب..
كيف أعلن اسلامه ومتى..؟
لقد أعلنه في لحظات الحميّة، والغضب، والانفعال..
لقد ساءه أن يساء الى ابن اخيه، ويظلم دون أن يجد له ناصرا، فيغضب له، وأخذته الحميّة لشرف بني هاشم،
فشجّ رأس أبي جهل وصرخ في وجهه باسلامه...
ولكن هل هذا هو الطريق الأمثل لك يغدار الانسان دين آبائه وقومه... دين الدهور والعصور.. ثم يستقبل دينا
جديدا لم يختبر بعد تعاليمه، ولا يعرف عن حقيقته الا قليلا..
صحيح أنه لا يشك لحظة في صدق محمد ونزاهة قصده.. ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا جديدا، بكل
ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات، في لحظة غضب، مثلما صنع حمزة الآن..؟
وشرع يفكّر.. وقضى أياما، لا يهدأ له خاطر.. وليالي لا يرقأ له فيها جفن..
وحين ننشد الحقيقة بواسطة العقل، يفرض الشك نفسه كوسيلة الى المعرفة.
وهكذا، لم يكد حمزة يستعمل في بحث قضية الاسلام، ويوازن بين الدين القديم، والدين الجديد، حتى ثارت
في نفسه شكوك أرجاها الحنين الفطري الموروث الى دين آبائه.. والتهيّب الفطري الموروث من كل جيد..
واستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة، وآلهاها وأصنامها... وعن الأمجاد الدينية التى أفاءتها هذه الآلهة المنحوتة
على قريش كلها، وعلى مكة بأسرها.
لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها..
ولكن اذا كان مقدورا له أن يكون أح أتباع هذه الدعوة، المؤمنين بها، والذائدين عنها..
فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين.. لحظة غضب وحميّة..؟ أم أوقات تفكير ورويّة..؟
وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره، ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألأة كلها من جديد لتفكر صارم ودقيق..
وبدأ الانسلاخ من هذا التاريخ م\كله.. وهذا الدين القديم العريق، هوّة تتعاظم مجتازها..
وعجب حمزة كيف يتسنى لانسان أن يغادر دين آبائه بهذه السهولة وهذه السرعة..
وندم على ما فعل.. ولكنه واصل رحلة العقل..ولما رأى أن العقل وحده لا يكفي لجأ الى الغيب بكل اخلاصه
وصدقه..وعند الكعبة، كان يستقبل السماء ضارعا، مبتهلا، مستنجدا بكل ما في الكون من قدرة ونور، كي
يهتدي الى الحق والى الطريق المستقيم.. ولنضع اليه وهو يروي بقية النبأ فيقول:
".. ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي.. وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم..
ثم أتيت الكعبة، وتضرّعت تاة الله أن يشرح صدري للحق، ويذهب عني الريب..
فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقينا..وغدوت الى رسول الله صلى الل عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري،
فدع الله أن يثبت قلبي على دينه..
"وهكذا أسلم حمزة اسلام اليقيم.
أعز الله الاسلام بحمزة..ز ووقف شامخا قويا يذود عن رسول الله، وعن المستضعفين من أصحابه..
ورآه أبو جهل يقف في صفوف المسلمين، فأدرك أنها الحرب لا محالة، وراح يحرّض قريشا على انزال الأذى
بالرسول وصحبه، ومضى يهيء لحرب أهليّة يشفي عن طرقها مغايظة وأحقاده..
ولم يستطع حمزة أن يمنع كل الأذى ولكن اسلامه مع ذلك كان وقاية ودرعا.. كما كان اغراء ناجحا لكثير من
القبائل التي قادها اسلام حمزة أولا. ثم اسلام عمر بن الخطاب بعد ذلك الى الاسلام فدخلت فيه أفواجا..!!
ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته، وبأسه، وحياته، لله ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم:
"أسد الله، وأسد رسوله"..
وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو، كان أميرها حمزة..
وأول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين كانت لحمزة..
ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر، كان أسد الله ورسوله هناك يصنع الأعاجيب..!!
وعادت فلول قريش من بدر الى مكة تتعثر في هزيمتها وخيبتها... ورجع أبو سفيان مخلوع القلب، مطأطئ
ال{اس. وقد خلّف على أرض المعركة جثث سادة قريش، من أمثال أبي جهل.. وعتبة بن ربيعة، وشيبة
بن ربيعة، وأميّة بن خلف. وعقبة بن أبي معيط.. والأسود بن عبدالله المخزومي، والوليد بن عتبة..
والنفر بن الحارث.. والعاص بن سعيد.. وطعمة ابن عديّ.. وعشرات مثلهم من رجال قريش وصناديدها.
وما كانت قريش لتتجرّع هذه الهزيمة المنكرة في سلام... فراحت تعدّ عدّتها وتحشد بأسها، لتثأر لنفسها
ولشرفها ولقتلاها.. وصمّمت قريش على الحرب.
وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها، ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، وبقيادة أبي سفيان
مرة أخرى.. وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه الى رجلين اثنين:
الرسول صلى اله عليه وسلم، وحمزة رضي الله عنه وأرضاه..أجل والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم
قبل الخروج للحرب، يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة..
ولقد اختاروا قبل الخروج، الرجل الذي وكلوا اليه أمر حمزة، وهو عبد حبشي، كان ذا مهارة خارقة في قذف
الحربة، جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب اليه ضربة قاتلة من رمحه، وحذروه من أن ينشغل
عن هذه الغاية بشيء آخر، مهما يكن مصير المعركة واتجاه القتال.
ووعدوه بثمن غال وعظيم هو حريّته.. فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم.. وكان عم جبير
" قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير"
" اخرج مع الناس وان أنت قتلت حمزة فأنت عتيق"..!!
ثم أحالوه الى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا الى الهدف الذي يريدون..
وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها، وعمها، وأخاها، وابنها.. وقيل لها ان حمزة هو الذي قتل بعض
هؤلاء، وأجهز على البعض الآخر، من أجل هذا كانت أكثر القرشيين والقرشيّات تحريضا على الخروج للحرب،
لا لشيء الا لتظفر برأس حمزة مهما يكن الثمن الذي تتطلبه المغامرة..!!
ولقد لبثت أياما قبل الخروج للحرب، ولا عمل لها الا افراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي
عليه أن يقوم به.. ولقد وعدته ان هو نجح في قال حمزة بأثمن ما تملك المرأة من متاع وزينة، فلقد أمسكت
بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلؤي الثمين وقلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها، ثم قالت وعيناها تحدّقان
في وحشي: " كل هذا لك، ان قتلت حمزة"..!!
وسال لعاب وحشي، وطارت خواطره توّاقة مشتاقة الى المعركة التي سيربح فيها حريّته، فلا يصير بعد عبدا
أو رقيقا، والتي سيخرج منها بكل هذا الحلي الذي يزيّن عنق زعيمة نساء قريش، وزوجة زعيمها، وابنة سيّدها.
كانت المؤمرة اذن.. وكانت الحرب كلها تريد حمزة رضي الله عنه بشكل واضح وحاسم..
وجاءت غزوة أحد... والتقى الجيشان. وتوسط حمزة أرض الموت والقتال، مرتديا لباس الحرب، وعلى صدره ريشة
النعام التي تعوّد أن يزيّن بها صدره في القتال..وراح يصول ويجول، لا يريد رأسا الا قطعه بسيفه، ومضى يضرب
في المشركين، وكأن المنايا طوع أمره، يقف بها من يشاء فتصيبه في صميمه.!!
وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم.. وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة..
ولولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل، ونزلوا الى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم.. لولا تركهم
مكانهم وفتحوا الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت غزوة أحد مقبرة لقريش كلها، رجالها، ونسائها بل
وخيلها وابلها..!!
لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة، واعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة..
وراح المسلمون يجمعون أنفسهم من جديدو ويحملون سلاحهم الذي كان بعضهم قد وضعه حين رأى جيش
محمد ينسحب ويولي الأدبار.. ولكن المفاجأة كانت قاسية عنيفة.
ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبلاءه..
وأخذ يضرب عن يمينه وشماله.. وبين يديه ومن خلفه..
ووحشيّ هناك يراقبه، ويتحيّن الفرصة الغادرة ليوجه نحنوه ضربته..
ولندع وحشا يصف لنا المشهد بكلماته:
[.. وكنت جلا حبشيا، أقذف بالحربة قذف لحبشة، فقلما أخطئ بها شيئا.. فلما التقى الانس خرجت أنظر
حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق.. يهدّ الناس بسيفه هدّا، ما يقف امامه شيء،
فوالله اني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأقتحمه أو ليدنو مني، اذ تقدّمني اليه سباع بن عبد العزى.
فلما رآه حمزة صاح به: هلمّ اليّ يا بن مقطّعة البظرو. ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه..
عندئذ هززت حربتي حتى اذا رضيت منها دفعتها فوقعت في ثنّته حتى خرجت من بين رجليه..
ونهض نحوي فغلب على امره ثم مات..وأتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت الى المعسكر فقعدت فيه،
اذ لم يكن لي فيه حاجة، فقد قتلته لأعتق
..]
ولا بأس في أن ندع وحشيا يكمل حديثه:
[ فلما قدمت مكة أعتقت، ثم أقمت بها حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فهربت
الى الطائف..فلما خرج وفد الطائف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم تعيّت عليّ المذاهب.
وقلت : الحق بالشام أو اليمن أو سواها.. فوالله اني لفي ذلك من همي اذ قال لي رجل: ويحك..!
ان رسول اله، والله لا يقتل أحد من الناس يدخل دينه.. فخرجت حتى قدمت على رسول الله ..
صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرني الا قائما أمامه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال:
أوحشيّ أنت..؟ قلت: نعم يا رسول الله.. قال: فحدّثني كيف قتلت حمزة، فحدّثته.. فلما فرغت من حديثي
قال: ويحك.. غيّب عني وجهك.. فكنت أتنكّب طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان، لئلا يراني
حتى قبضه الله اليه.. فلما خرج المسلمون الى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم، وأخذت حربتي
التي قتلت بها حمزة.. فلما التقى الانس رأيت مسيلمة الكذاب قائما، في يده السيف، فتهيأت له، وهززت
حربتي، حتى اذا رضيته منها دفعتها عليه فوقعت فيه..فان كنت قد قتلت بحربتي هذه خير الناس وهو حمزة..
فاني لأرجو أن يغفر الله لي اذ قتلت بها شرّ الناس مسيلمة
]..
هكذا سقط أسد الله ورسوله، شهيدا مجيدا..!!
وكما كانت حياته مدوّية، كانت موتته مدوّية كذلك..
فلم يكتف أعداؤه بمقتله.. وكيف يكتفون أو يقتنعون، وهم الذين جنّدوا كل أموال قريش وكل رجالها في هذه
المعركة التي لم يريدوا بها سوى الرسول وعمّه حمزة..
لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.. أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة.. واستجاب الحبشي لهذه
الرغبة المسعورة.. وعندما عاد بها الى هند كان يناولها الكبد بيمناه، ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه،
مكافأة له على انجاز مهمته..ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر، وزوجة أبي سفيان قائد
جيوش الشرك الوثنية،مضغت كبد حمزة، راجية أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلها. ولكن الكبد استعصت
على أنيابها، وأعجزتها أن تسيغها، فأخرجتها من فمها، ثم علت صخرة مرتفعة، وراحت تصرخ قائلة:

نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
ولا أخي وعمّه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري
أزاح وحشي غليل صدري


وانتهت المعركة، وامتطى المشركون ابلهم، وساقوا خيلهم قافلين الى مكة..
ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه الى أرض المعركة لينظر شهداءها..
وهناك في بطن الوادي. وا هو يتفحص وجوه أصحابه الذين باعوا لله أنفسهم، وقدّموها قرابين مبرورة لربهم
الكبير. وقف فجأة.. ونظر. فوجم.. وضغط على أسنانه.. وأسبل جفنيه..
فما كان يتصوّر قط أن يهبط الخلق العربي على هذه الوحشية البشعة فيمثل بجثمان ميت على الصورة التي
رأى فيها جثمان عمه الشهيد حمزة بن عبد المطلب أسد الله وسيّد الشهداء..
وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر وقال وعيناه على جثمان عمّه:
" لن اصاب بمصلك أبدا.. وما وقفت موقفا قط أغيظ اليّ من موقفي هذا..".
ثم التفت الى أصحابه وقال:
" لولا أن تحزن صفيّة _أخت حمزة_ ويكون سنّه من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل
الطير.. ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن، لأمثلن بثلاثين رجلا منهم
.."
فصاح أصحاب الرسول:
" والله لئن ظفرنا بهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم، مثلة لم يمثلها أحد من العرب..!!"
ولكن الله الذي أكرم حمزة بالشهادة، يكرّمه مرة أخرى بأن يجعل من مصرعه فرصة لدرس عظيم يحمي
العدالة الى الأبد، ويجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا..
وهكذا لم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يفرغ من القاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه
لم يبرحه بهذه الآية الكريمة:
( ادع الى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ،
وهو أعلم بالمهتدين، وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين،واصبر وما صبرك
الا بالله، ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يمكرون.ان الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون
..)
وكان نزول هذه الآيات، في هذا الموظن، خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه أعظم الحب، فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب..
بل كان اخاه من الرضاعة..وتربه في الطفولة..وصديق العمر كله..
وفي لحظات الوداع هذه، لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد
الشهداء المعركة جميعا..وهكذا حمل جثمان حمزة الى مكان الصلاة على أرض المعركة التي شهدت بلاءه،
واحتضنت دماءه، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم جيء يشهيد آخر، فصلى عليه
الرسول.. ثم رفع وترك حمزة مكانه، وجيء بشهيد ثاث فوضع الى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول..
وهكذا جيء بالشهداء.. شهيد بعد شهيد.. والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي على كل واحد منهم
وعلى حمزة معه حتى صلى على عمّه يومئذ سبعين صلاة.
وينصرف الرسول من المعركة الي بيته، فيسمع في طريقه نساء بني عبد الأشهل يبكين شهداءهن،
فيقول عليه الصلاة والسلام من فرط حنانه وحبه: " لكنّ حمزة لا بواكي له"..!!
ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطيب نفسا اذا بكت النساء عمه، فيسرع
الى نساء بني عبد الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة فيفعلن… ولا يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج
اليهن، ويقول : " ما الى هذا قصدت، ارجعن يرحمكن الله، فلا بكاء بعد اليوم"
ولقد ذهب أصحاب رسول الله يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظيمة.
فقال حسان بن ثابت:

دع عنك دارا قد عفا رسمها
وابك على حمزة ذي النائل
اللابس الخيل اذا أحجمت
كالليث في غابته الباسل
أبيض في الذروة من بني هاشم
لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم
شلت يدا وحشي من قاتل


وقال عبد الله بن رواحة:

بكت عيني وحق لها بكاها
وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الاله غداة قالوا:
أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا
هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى، لك الأركان هدّت
وأنت الماجد البرّ الوصول


وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة:

دعاه اله الحق ذو العرش دعوة
الى جنة يحيا بها وسرور
فذاك ما كنا نرجي ونرتجي
لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله ما أنساك ما هبّت الصبا
بكاءا وحزنا محضري وميسري
على أسد الله الذي كان مدرها
يذود عن الاسلام كل كفور
أقول وقد أعلى النعي عشيرتي
جزى الله خيرا من أخ ونصير

على أن خير رثاء عطّر ذكراه كانت كلمات رسول الله له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة
وقال: " رحمة الله عليك، فانك كنت وصولا للرحم فعولا للخيرات".
لقد كان مصاب النبي صلى الله عليه وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا. وكان العزاء فيه مهمة صعبة..
بيد أن الأقدر طكانت تدّخر لرسول الله أجمل عزاء.
ففي طريقه من أحد الى داره مرّ عليه الصلاة والسلام بسيّدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها
وزوجها، وأخوها..وحين أبصرت المسلمين عائدين من الغزو، سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة..
فنعوا اليها الزوج..والأب ..والأخ..
واذا بها تسألهم في لهفة: " وماذا فعل رسول الله".
قالوا: " خيرا.. هو بحمد الله كما تحبين".
قالت:" أرونيه، حتىأنظر اليه".
ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رأته أقبلت نحوه تقول:
" كل مصيبة بعدك، أمرها يهون".
أجل.. لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه.. ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذّ
الفريد، فليس في دنيا البذل، والولاء، والفداء لهذا نظير.
سيدة ضعيفة، مسكينة، تفقد في ساعة واحدة أباها وزوجها وأخاها.. ثم يكون ردّها على الناعي لحظة
سمعها الخبر الذي يهدّ الجبال: " وماذا فعل رسول الله".
لقد كان مشهد أجاد القدر رسمه وتوقيته ليجعل منه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عزاء أي عزاء..
في أسد الله، وسيّد الشهداء..!!










عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:27 AM
المشاركة 118

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام

هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث..غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..
يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.
ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..
ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة
من أساطير الايمان والفداء..؟
بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.
انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..
ولكن أي واحد كان..؟ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة
يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم "محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا.
وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه،
كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين
شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال ..
"ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا
عن فضول قريش وأذاها.
. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم".
فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه.
هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.
ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه..
ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب،
فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة
ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!
كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.
فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين
أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.
وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه
غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..
ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة
قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..
ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد
صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها شاخصا الى أم مصعب حيث ألقى عليها النبأ ..
الذي طار بصوابها ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق
وثباته،القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.
وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور
الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع.
ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ،
تثأر للآلهة التي هجرهابأسلوب آخر..
وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك،
حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه،
ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا.
ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية
مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ
من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن
حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم.
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا
أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى
قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..
وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:
" لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!
لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر
الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي
فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن..
فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:
"يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...
أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي".
وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر،
لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله،
كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة.
وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا
الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم.
كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول
اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة
التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب.
وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة
وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا.
لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة
العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم
وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم
"مصعب ابن عمير".
لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار.
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي
يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..
هناك نهض في ضيافة "أسعد بم زرارة" يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه
من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد).
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه.
ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج
غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم
يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!
ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه
وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..
أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه،..
ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي،
وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا.
وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
"ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..
وفي مثل هدوء البحر وقوته..وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك
بالحديث الطيب لسانه فقال:
"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..
كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير..
فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى
غير ضارّ ولا مضارّ ،هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت
أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
"ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين".
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:
"يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله".
فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن
محمدا رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت
باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ،
وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟
هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!
لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاهحا هو له أهل، وبه جدير.
وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها،
لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم
ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم
وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل
اللواء وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون
موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين ..
لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم
من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة،حين رأوا الفوضى والذعر في
صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر،
فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير،
ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم
بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفزان..

ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..
لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:
[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس،
فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره
وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح،
ووقع مصعب، وسقط اللواء
].
وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..
كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين
والحماة..ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين
مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا: (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..
وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ
بدمائه الزكية.. لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى
هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب
حمايته والدفاع عنه..!!
لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..
يقوا خبّاب بن الأرت:
[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله..
فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء
يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه،

فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة،
وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..
وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما
من الصدق والطهر والنور..على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..
أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير..
وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك.
"ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب
وقال: "ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".
ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
"أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة،
الا ردوا عليه السلام
"..


السلام عليك يا مصعب..
السلام عليكم يا معشر الشهداء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته









عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:28 AM
المشاركة 119

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )


سعد بن معاذ - هنيئا لك يا أبا عمرو

في العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم ، وفي السابع والثلاثين مات شهيدا..
وبين يوم اسلامه، ويوم وفاته، قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله.
انظروا..أترون هذا الرجل الوسيم، الجليل، الفارع الطول، المشرق الوجه، الجسيم، الجزل.؟
انه هو.. يقطع الأرض وثبا وركضا الى دار أسعد بن زرارة بيرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي
بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام الى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والاسلام..
أجل.. هو ذاهب الى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة، حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها.
ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة، حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة
هبّت عليه هبوب العافية.
ولا يكاد يبلغ الجالسين، ويأخذ مكانه بينهم، ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه
وروحه..وفي احدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة، يلقي زعيم الأنصار حبته بعيدا، ويبسط يمينه مبايعا
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وباسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة، ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله
رب العالمين.
أسلم سعد.. وحمل تبعات اسلامه في بطولة وعظمة..
وعندما هاجر رسول الله وصحبه الى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين،
وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ، ولا أذى.. ولا حساب..!!
وتجيء غزوة بدر.. ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ليشاورهم في الأمر.
وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول: " أشيروا عليّ أيها الناس.."
ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول: " يا رسول الله" .
" لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا.
فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك،
ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن
تلقى بنا عدونا غدا.. انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء.. ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك..
فسر بنا على بركة الله
"..
أهلت كلمات سعد كالبشريات، وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة، فقال للمسلمين:
" سيروا وأبشروا، فان الله وعدني احدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر الى مصرع القوم"..
وفي غزوة أحد، وعندما تشتت المسلمون تحت وقع الباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين، لم
تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ.
لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل
وبه جدير ، وجاءت غزوة الخندق، لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا..
وغزوة الخندق هذه، آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة،
من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة.
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم، ويتواصون بطاعته،
ويرجون أن تكف قريش عن اغارتها وحروبها، اذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة الى مكة محرّضين
قريشا على رسول الله، وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين اذا هم خرجوا لقتال المسلمين.
واتفقوا مع المشركين فعلا، ووضعوا معا خطة القتال والغزو..
وفي طريقهم وهم راجعون الى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب، هي قبيلة غطفان واتفقوا مع
زعمائها على الانضمام لجيش قريش،وضعت خطة الحرب، ووظعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة
بجيش عرمرم كبير ، واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش
المهاجم ، ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول
المدينة ليعوق زحف المهاجمين ، وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الى كعب بن أسد زعيم يهود بني
قريظة، ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود
بني قريظة عهود ومواثيق.
فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لكم: " ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد".
عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك، ففكر
في أن يعزل غطفان عن قريش، فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده، ونصف قوته، وراح بالفعل يفاوض
زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب، ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة، ورضي قادة غطفان،
ولم يبق الا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة.
وعند هذا المدى من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا
اليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم ،واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ،
وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف
تجاهه ، قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان..
وأنبأهما أنه انما لجأ الى هذه المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير،
والحصار الرهيب..
وتقدم السعدان الى رسول الله بهذا السؤال: " يا رسول الله.. أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به
قال الرسول: " بل أمر أختاره لكم..
والله ما أصنع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر
عنكم شوكتهم الى أمر ما
".. وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا، أي امتحان.
هنالك قال: " يا رسول الله..
قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة،
الا قرى، أي كرما وضيفة، أ، بيعا، أفحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا..؟
والله ما لنا بهذا من حاجة ، ووالله لا نعطيهم الا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم
".
وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع
المفاوضة، وأنه أقرّ رأيهم والتزم به ، وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا ، والحق أنه حصار اختارته هي
لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها، وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية.
ولبس المسلمون لباس الحرب.
وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل ما أجمل الموت اذا حان الأجل
وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا، قذفه به أحد المشركين.
وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا اسعافا مؤقتا يرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل
الى المسجد، وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه.
وحمل المسلمون فتاهم العظيم الى مكانه في مسجد الرسول..
ورفع سعد بصره الى السماء وقال:
" اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب اليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا
رسولك، وكذبوه، وأخرجوه..وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة..
ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة
".. لك الله يا سعد بن معاذ..!
فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول، في مثل هذا الموقف سواك..؟
ولقد استجاب الله دعاءه.. فكانت اصابته هذه طريقه الى الشهادة، اذ لقي ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه..
ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة ، ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة، ودبّ
في صفوف جيشها الهلع، حمل الجميع متاعهم وسلاحهم، وعادوا مخذولين الى مكة.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة، يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا،
أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه.هنالك أمر أصحابه بالسير الى بني قريظة.
وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما ، ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين، استسلموا،
وتقدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم اليه، وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ..
وكان سعد حليفهم في الجاهلية ، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد
بن معاذ من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد..
جاء محمولا على دابة، وقد نال منه الاعياء والمرض..
وقال له الرسول:" يا سعد احكم في بني قريظة".
وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت لبمدينة تهلك فيها بأهلها.
وقال سعد: " اني أرى أن يقتل مقاتلوهم ، وتسبى ذراريهم ، وتقسّم أموالهم.."
وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة ، كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم، بل كل
ساعة ، وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته، فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ
عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره، وابتهل الى الله قائلا:
" اللهم ان سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا".
وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما..
فحاول في جهد، وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال:
" السلام عليك يا رسول الله ،أما اني لأشهد أنك رسول الله ".
وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال: " هنيئا لك يا أبا عمرو".
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: " كنت ممن حفروا لسعد قبره ،وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب،
شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا الى اللحد
" ، وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما، ولكن عزاءهم
كان جليلا، حين سمعوا رسولهم الكريم يقول: " لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ".








عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..
قديم 11-10-2012, 11:30 AM
المشاركة 120

  • غير متواجد
رد: سيرةُ نبيّ الرّحمة وصَحابَته ( في حَلَقاتْ )



العباس بن عبد المطلب - ساقي الحرمين

في عام الرمادة، وحيث أصاب العباد والبلاد قحط وبيل، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون معه الى الفضاء
الرحب يصلون صلاة الاستسقاء، ويضرعون الى الله الرحيم أن يرسل اليهم الغيث والمطر.
ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه، ورفعها صوب السماء وقال:
" اللهم انا كنا نسقى بنبيك وهو بيننا..اللهم وانا اليوم نستسقي بعمّ نبيّك فاسقنا "..
ولم يغادر المسلميون مكانهم حتى حاءهم الغيث، وهطل المطر، يزفّ البشرى، ويمنح الريّ، ويخصب الأرض.
وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه، ويقبّلونه، ويتبركون به وهم يقولون:
" هنئا لك..ساقي الحرمين"..
فمن كان ساقي الحرمين هذا..؟
ومن ذا الذي توسل به به عمر الى الله.. ومعر من نعرف تقى وسبقا ومكانة عند الله ورسوله ولدى
المؤمنين..؟
انه العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كان الرسول يجلّه بقدر ما كان يحبه، وكان يمتدحه ويطري
سجاياه قائلا: " هذه بقيّة آبائي".
هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا وأوصلها ..!
وكما كان حمزة عمّ الرسول وتربه، كذلك كان العباس رضي الله عنه فلم يكن يفصل بينهما في سنوات العمر
سوى سنتين أو ثلاث، تزيد في عمر العباس عن عمر الروسل.
وهكذا كان محمد، والعباس عمه، طفلين من سن واحدة، وشابين من جيل واحد.
فلم تكن القرابةالقريبة وحدها، آصرة ما بينهما من ودّ، بل كانت كذلك زمالة السنّ،وصداقة العمر.
وشيء آخر نضعه معايير النبي في المكان الأول دوما.. ذلك هو خلق العباس وسجاياه.
فلقد كان العباس جوّادا، مفرط الجود، حتى كأنه للمكلرم عمّها أو خالها،وكان وصولا للرحم والأهل، لا يضنّ
عليهما بجهد ولا بجاه، ولا بمال ، وكان الى هذه وتلك،..
فطنا الى حدّ الدهاء، وبفطنته هذه التي تعززها مكانته الرفيعة في قريش، استطاع أن يدرأ عن الرسول
عليه الصلاة والسلام حين يجهر بدعوته الكثير من الأذى والسوء.
كان حمزة كما رأينا في حديثنا عنه من قبل يعالج بغي قريش، وصلف أبي جها بسيفه الماحق.
أما العباس فكان يعالجها بفطنة ودهاء أدّيا للاسلام من لنفع مثلما أدّت السيوف المدافعة عن حقه وحماه.
فالعباس لم يعلن اسلامه الا عام فتح مكة، مما جعل بعض المؤرخين يعدونه مع الذين تأخر اسلامه..
بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبئ بأنه كان من المسلمين المبكّرين، غير أنه كان يكتم اسلامه..
يقول أبو رافع خادم الرسول صلى الله عليه وسلم:"
كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الاسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم
الفضل، وأسلمت... وكان العباس يكتم اسلامه
".
هذه رواية أبو رافع يتحدث بها عن حال العباس واسلامه قبل غزوة بدر..كان العباس اذن مسلما..
وكان مقامه بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه خطة أدت غايتها على خير نسق..
ولم تكن قريش تخفي شكوكها في نوايا العباسو ولكنها أيضا لم تكن تجد سبيلا لمحادّته، لا سيما وهو في
ظاهر أمره على ما يرضون من منهج ودين، حتى اذا جاءت غزوة بدر رأتها قريش فرصة تبلو بها سريرة
العباس وحقيقته.
والعباس أدهى من أن يغفل عن اتجاهات ذلك المكر السيء الذي تعالج به قريش حسراتها، وتنسج به
مؤامراتها ، ولئن كان قد نجح في ابلاغ النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنباء قريش وتحرّكاتها، فان قريشا
ستنجح في دفعه الى معركة لا يؤمن بها ولا يريدها..
بيد أنه نجاح موقوت لن يلبث حتى ينقلب على القرشيين خسارا وبوارا.
ويلتقي الجمعان في غزوة بدر..وتصطك السيوف في عنفوان رهيب، مقررة مصير كل جمع، وكل فريق.
وينادي الرسول في أصحابه قائلا:
" ان رجالا من بني هاشم، ومن غير بني هاشم، قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا.. فمن لقي منكم
أحدهم فلا يقتله ، ومن لقي البختريّ بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله.
ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فانه انما أخرج مستكرها
"..
لم يكن الرسول بأمره هذا يخصّ عمّه العباس بميّزة، فما تلك مناسبة المزايا، ولا هذا وقتها..
وليس محمد عليه الصلاة والسلام من يرى رؤوس أصحابه تتهاوى في معرة الحق، ثم يشفع والقتال دائر
لعمه، لو كان يعلم أن عمه من المشركين..أجل..
ان الرسول الذي نهى عن أن يستغفر لعمه أبي طالب على كثرة ما أسدى أبو طالب له وللاسلام من أياد
وتضحيات ،ليس هو منطقا وبداهة من يجيء في غزوة بدر ليقول لمن يقتلون آباءهم واخوانهم من المشركين:
استثنوا عمي ولا تقتلوه..!!
أما اذا كان الرسول يعلم حقيقة عمه، ويعلم أنه يطوي على الاسلام صدره، كما يعلم أكثر من غيره، الخدمات
غير المنظورة التي أدّاها للاسلام.. كما يعلم أخيرا أنه خرج مكرها ومحرجا فآنئذ يصير من واجبه أن ينقذ من
هذا شأنه، وأن يعصم من القتل دمه ما استطاع لهذا سبيلا.
واذا كان أبو البختري بن حارث وهذا شأنه، قد ظفر بشفاعة الرسول لدمه حتى لا يهدر، ولحياته كي لا تزهق.
أفلا يكون جديرا بهذه الشفاعة، مسلم يكتم اسلامه... ورجل له في نصرة الاسلام مواقف مشهودة، وأخرى
طوي عليها ستر الخفاء..؟؟
بلى..ولقد كان العباس ذلك المسلم، وذلك النصير.ولنعد الى الوراء قليلا لنرى.
في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحاج وفد الأنصار، ثلاثة وسبعون رجلا وسيدتان، ليعطوا الله
ورسوله بيعتهم، وليتفقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام على الهجرة الى المدينة، أنهى الرسول الى عمه
العباس نبأ هذا الوفد، وهذه البيعة.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يثق بعمه في رأيه كله.
ولما جاء موعد اللقاء الذي انعقد سرا وخفية، خرج الرسول وعمه العباس الى حيث الأنصار ينتظرون.
وأراد العباس ان يعجم عود القوم ويتوثق للنبي منهم..
ولندع واحدا من أعضاء الوفد يروي لنا النبأ، كما سمع ورأى.. ذلكم هو كعب بن مالك رضي الله عنه:
".. وجلسنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب..
وتكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج، ان محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فهو في عز من
قومه ومنعة في بلده، وانه أبى الا النحياز اليكم واللحوق بكم..
فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك،وان كنتم
ترون أنكم مسلموه خاذلوه بعد خروجه اليكم، فمن الآن فدعوه
".
كان العباس يلقي بكلماته الحازمة هذه، وعيناه تحدقان كعيني الصقر في وجوه النصار، يتتبع وقع الكلام وردود
فعله العاجلة ،ولم يكتف العباس بهذا، فذكاؤه العظيم ذكاء عملي يتقصّى الحقيقة في مجالها المادي، ويواجه
كل أبعادها مواجهة الحاسب الخبير..
هناك استأنف حديثه مع الأصار بسؤال ذكي ألقاه، ذلك هو: " صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم".
ان العباس بفطنته وتجربته مع قريش يدرك أن الحرب لا محالة قادمة بين الاسلام والشرك، فقريش لن تتنازل
عن دينها ومجدها وعنادها.
والاسلام ما دام حقا لن يتنازل للباطل عن حقوقه المشروعة..
فهل الأنصار، أهل المدينة صامدون للحرب حين تقوم..؟
وهل هم من الناحية الفنية، أكفاء لقريش، يجيدون فنّ الكرّ والفرّ والقتال..؟
من اجل هذا ألقى سؤاله السالف: " صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم".
كان الأنصار الذين يصغون للعباس رجالا كالأطواد ،ولم يكد العباس يفرغ من حديثه، لا سيما ذلك السؤال
المثير الحافز حتى شرع الأنصار يتكلمون.
وبدأ عبدالله بن عمرو بن حرام مجيبا على السؤال:"
نحن، والله، أهل الحرب.. غذينا بها،ومرّنا عليها، وورثناها عن آبائنا كابرا فكابر..نرمي بالنبل حتى تفنى..
ثم نطاعن بالرماح حتى تنكسر..ثم نمشي بالسيوف، فنضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو من عدونا
".
وأجاب العباس متهللا: " أنتم أصحاب حرب اذن، فهل فيكم دروع".
قالوا: " نعم.. لدينا دروع شاملة".
ثم دار حديث رائع وعظيم بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأنصار.. حديث سنعرض له ان
شاء الله فيما بعد.
هذا موقف العباس في بيعة العقبة..وسواء عليه أكان يومئذ اعتنق الاسلام سرا، أم كان لا يزال يفكّر، فان
موقفه العظيم هذا يحدد مكانه بين قوى الظلام الغارب، والشروق المقبل،ويصوّر أبعاد رجولته ورسوخه.
ويوم يجيء حنين ليؤكد فداءية هذا الهادئ السمت، اللين الجانب، حينما تدعو الحاجة اليها، ويهيب المواقف بها،
بينما هي في غير ذلك الظرف الملحّ، مستكنّة تحت الأضلاع، متوارية عن الأضواء.
في السنة الثامنة للهجرة، وبعد ان فتح الله مكة لرسوله ولدينه عز بعض القبائل السائدة في الجزيرة العربية
أن يحقق الدين الجديد كل هذا النصر بهذه السرعة ،فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف ونصر وجشم وآخرون.
وققروا شنّ حرب حاسمة ضدّ الرسول والمسلمين ،ان كلمة قبائل لا ينبغي أن تخدعنا عن طبيعة تلك الحروب
التي كان يخوضها الرسول طوال حياته. فنظن انها كانت مجرّد مناوشات جبلية صغيرة، فليس هناك حروب أشدّ
ضراوة من حروب تلك القبائل في معاقلها.
وادراك هذه الحقيقة لا يعطينا تقديرا سديدا للجهد الخارق الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه فحسب، بل يعطينا تقديرا صحيحا وأمينا لقيمة النصر العظيم الذي أحرزه الاسلام والمؤمنون،
ورؤية واضحة لتوفيق الله الماثل في هذا النجاح وذلك الانتصار..احتشدت تلك القبائل في صفوف لجبة
من المقاتلين الأشدّاء..وخرج اليهم المسلمون في اثني عشر ألفا..اثنا عشر ألفا..؟
وممن..؟ من الذين فتحوا مكة بالأمس القريب، وشيعوا الشرك والأصنام الى هاويتها الأخيرة والسحيقة،
وارتفعت راياتهم تملأ الأفق دون مشاغب عليها أو مزاحم لها.
هذا شيء يبعث الزهو..والمسلمون في آخر المطاف بشر، ومن ثم، فقد ضعفوا امام الزهو الذي ابتعثته
كثرتهم ونظامهم، وانتصارهم بمكة، وقالوا:" لن نغلب اليوم عن قلة".
ولما كانت السماء تعدّهم لغاية أجلّ من الحرب وأسمى، فان ركونهم الى قوتهم العسكرية، وزهزهم
بانتصارهم الحربي، عمل غير صالح ينبغي أن يبرؤا منه سريعا، ولو بصدمة شافية.
وكانت الصدمة الشافية هزيمة كبرى مباغتة في أول القتال، حتى اذا ضرعوا الى الله، وبرؤا من حولهم الى
حوله، ومن قوتهم الى قوته، انقلبت الهزيمة نصرا، ونزل القرآن الكريم يقول للمسلمين:
(.. ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين.
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء
الكافرين
) كان صوت العباس يومئذ وثباته من ألمع مظاهر السكينة والاستبسال.
فبينما كان المسلمون مجتمعين في أحد أودية تهامة ينتظرون مجيء عدوّهم، كان المشركون قد سبقوهم
الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه، شاحذين أسلحتهم، ممسكين زمام المبادرة بأيديهم.
وعلى حين غفلة، انقضّوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة، جعلتهم يهرعون بعيدا، لا يلوي أحد على أحد.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه الهجوم المفاجئ الخاطف على المسلمين، فعلا صهوة بغلته
البيضاء، وصاح: " الى أين أيها الناس..؟ هلموا اليّ..أنا النبي لا كذب..انا ابن عبد المطلب"..
لم يكن حول النبي ساعتئذ سوى أبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وولده
الفضل بن العباس، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وقلة أخرى من
الأصحاب ، وكان هناك سيدة أخذت مكانا عاليا بين الرجال والأبطال.
تلك هي أم سليم بنت ملحان.. رأت ذهول المسلمين وارتباكهم، فركبت جمل زوجها أبي طلحة
رضي الله عنهما، وهرولت بها نحو الرسول ،ولما تحرك جنينها في بطنها، وكانت حاملا، خلعت بردتها وشدّت
بها على بطنها في حزام وثيق، ولما انتهت الى النبي صلى الله عليه وسلم شاهرة خنجرا في يمينها
ابتسم لها الرسول وقال: " أم سليم "
قالت: " نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فانهم
لذلك أهل
"..
وازدادت البسمة ألقا على وجه الرسول الواشق بوعد ربه وقال لها:" ان الله قد كفى وأحسن يا أم سليم".
هناك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، كان العباس الى جواره، بل كان بين قدميه بخطام
بغلته يتحدى الموت والخطر ، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرخ في الناس، وكان العباس جسيما
جهوري الصوت، فراح ينادي: " يا معشر الأنصار..يا أصحاب البيعة"..وكانما كان صوته داعي القدر ونذيره..
فما كاد يقرع أسماع المرتاعين من هول المفاجأة، المشتتين في جنبات الوادي، حتى أجابوا في صوت
واحد: " لبّيك.. لبّيك"..
وانقلبوا راجعين كالاعصار، حتى ان أحدهم ليحرن بعيره أو فرسه، فيقتحم عنها ويترجل، حاملا درعه وسيفه
وقوسه، ميممّا صوب موت العباس ،ودارت المعركة من جديد.. ضارية، عاتية.
وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الآن حمي الوطيس"..وحمي الوطيس حقا..
وتدحرج قتلى هوزان وثقيف، وغلبت خيل الله خيل اللات، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العباس عمه حبا كبيرا، حتى انه لم ينم يوم انتهت غزوة بدر، وقضى
عمه ليله في الأسر ، ولم يخف النبي عليه السلام عاطفته هذه، فحين سئل عن سبب أرقه، وقد نصره الله
نصرا مؤزرا أجاب: " سمعت أنين العباس في وثاقه"..
وسمع بعض المسلمين كلمات الرسول، فأسرع الى مكان الأسرى، وحلّ وثاق العباس، وعاد فأخبر الرسول
قائلا: " يا رسول الله..اني أرخيت من وثاق العباس شيئا"..ولكن لماذا وثاق العباس وحده..؟
هنالك قال الرسول لصاحبه: " اذهب، فافعل ذلك بالأسرى جميعا".
أجل فحب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه لا يعني أن يميزه عن الناس الذين تجمعهم معه ظروف مماثلة.
وعندما تقرر أخذ الفدية من الأسرى، قال الرسول لعمه :" يا عباس..افد نفسك، وابن اخيك عقيل بن أبي
طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو وأخا بني الحارث بن فهر، فانك ذومال
"..
وأردا العباس أن يغادر أسره با فدية، قائلا: " يا رسول الله، اني كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني"..
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصرّ على الفدية، ونزل لقرآن الكريم في هذه المناسبة يقول:
" يا ايها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر
لكم، والله غفور رحيم
".
وهكذا فدى العباس نفسه ومن معه، وقفل راجعا الى مكة.. ولم تخدعه قريش بعد ذلك عن عقله وهداه،
فبعد حين جمع ماله وحمل متاعه، وأدرك الرسول بخيبر، ليأخذ مكانه في موكب الاسلام، وقافلة المؤمنين
وصار موضع حب المسلمين واجلالهم العظيم، لا سيما وهم يرون تكريم الرسول له وحبه اياه وقوله عنه:
" انما العباس صنو أبي.. فمن آذى العباس فقد آذاني".
وأنجب العباس ذريّة مباركة ، وكان حبر الأمة عبدالله بن عباس واحدا من هؤلاء الأبناء المباركين.
وفي يوم الجمعة لأربع عشرة سنة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين سمع اهل العوالي بالمدينة مناديا
ينادي: " رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب".
فأدركوا أن العباس قد مات.. وخرج الناس لتشييعه في أعداد هائلة لم تعهد المدينة مثلها..
وصلى عليه خليفة المسلمين يومئذ عثمان رضي الله عنه.
وتحت ثرى البقيع هدأ جثمان أبي الفضل واستراح.. ونام قرير العين، بين الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا
الله عليه!!







عظَمة عَقلكْ تخلقُ لك الْحسادْ ، وعظَمة قلبكْ تخلقُ لك الأصدقاءْ .. وعظـَـمة ثرائك تخلقُ لك الْمنافقونْ


..إنّ لله وإنّ إليه راجعون ..

اللّهم أغفر " لأم عبدالعزيز " واسكنها جنات الفردوس الأعلى

واعفو عنها وتغمدها برحمتك ياأرحم الراحمين..



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

الانتقال السريع

Bookmark and Share

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML


الساعة الآن 05:54 PM.